الحركات الثورية في عهد الخليفة المُعتمد على الله:
هو أحمد المعتمد على الله أبو العبّاس أمير المؤمنين ابن المُتوكل على الله (870-892 م)، لقد ظهر بالكوفة علي بن زيد الطالبي، فوجه الخليفة المعتمد إليه جيشاً فهُزم جيش الخليفة، وقتل عدد كبير من أفراده، ونجا أميره. وتمكّن علي بن زيد من دخول الري. وخرج محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي بفارس، وغلب عليها، لكنه عاد في عام (258 هجري)، فدخل في طاعة الخليفة، وحمل إليه الخراج، لكنه لم يلبث أن عاد إلى خلافه، وخلع طاعته عام (261 هجري).
غير أنه هُزِمَ أمام يعقوب بن الليث الصفار، ثم فرَّ من فارس أمامه عام (262 هجري). ودخل محمد وعلي ولدا الحُسين بن جعفر بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المدينة المنورة عام (271 هجري)، وعملا بها نهباً. وثار ابن عيسى ابن الشيخ بالقرب من دمشق غير أنه هُزِمَ أمام القائد (أماجور)، ورضي الخليفة عنه بعد ذلك، وعيّنه نائباً على أرمينيا.
حركة الخوارج:
أزعج مساور بن عبد الحميد الخارجي البلاد، واستمرت الدولة في قتاله، وهو في تعدّياته حتى توفي عام (263 هجري). وفي عام (267 هجري)، استولى أحمد بن عبد الله الحجابي على خراسان، وكرمان، وسجستان، وضرب السكة باسمه، وفي نهاية العام قتله أحد جنوده، وأراح المسلمين منه.
وكذلك فقد سيطر الخوارج على مدينة هراة، أو استمرت سيطرتهم على هذه المدينة والتي دامت ثلاثين سنة حتى أنقذها منهم يعقوب بن الليث عام (259 هجري)، حيث ظفر بأميرهم الذي انتحل الخلافة طيلة هذه المدة. وسبّبت الإمارات التي قامت مُشكلاتٍ للدولة وخاصة الدولة الصفارية، والطولونية، والطالبية. غير أن أصعب الحركات وأشدّها كانت حركة الزنج.
حركة الزنج:
كُلّف سعيد بن الحاجب بقتال الزنج فسار إليهم في رجب من عام (257 هجري)، وهزمهم في أول معركة غير أنه هُزِمَ أمامهم في المعارك التي تلت، وفقد قسماً كبيراً من جيشه، وقُتِلَ هو، واشتدت شوكتهم، واستطاعوا دخول مدينة البصرة في شوال من العام نفسه، وكان أهلها قد أصابهم الرعب والخوف بسبب بما كانوا يسمعون من أعمال هؤلاء الزنج الحاقدين، فغادرت البصرة أعداد كبيرة من أهلها، واتجهوا إلى عدة جهات.
ولمّا دخل الزنج المدينة هدّموا بيوتها وأحرقوها، ثم نادى إبراهيم بن المهلبي بالأمان لأهلها فاجتمع منهم عدد كبير فلما رآهم أمر بقتلهم فأُبيدوا. وفي مستهل ذي القعدة من عام (257 هجري)، أرسل الخليفة جيشاً كثيفاً بقيادة الأمير محمد المعروف بـ (المولد)، وأردفه بجيش آخر في ربيع الأول من عام (258 هجري)، بإمرة أخيه الموفق، ومعه القائد مفلح، فقتل مفلح، كما أسر أحد قادة الزنج، وهو يحيى بن محمد البحراني.
ودار بين الجهتين حربٍ عنيفٍ في شهر رجب، وانتقل الموفق بعد ذلك إلى واسط حيث اتخذها مقراً لقيادته ورجع بعدها إلى سامراء، وعهد للأمير محمد بتولي مهمة القتال. وتوالت الجيوش إلى حرب الزنج فسار موسى بن بغا نحو البصرة، ومعه إسحاق بن كنداج، وإبراهيم بن سيما، كما سار عبد الرحمن بن مفلح نحو الأهواز وذلك عام (259 هجري)، واستطاع عبد الرحمن بن مفلح أن ينتصر على قائد الزنج في منطقة الأهواز.
وهو علي بن أبان المهلبي في عدة معارك، وأن يأسر من أتباعه عدداً كبيراً، وفرَّ نتيجة ذلك المهلبي إلى صاحب الزنج، وملك عبد الرحمن بن مفلح الأهواز. وفي عام (260 هجري)، دخل الزنج الكوفة، وقتلوا علي بن زيد الطالبي الذي امتلكها، كما أن الزنج قد تمكّنوا في العام التالي من العودة إلى الأهواز فقتلوا، وسبوا، وسلبوا، وانتهبوا ما شاء لهم هواهم، ثم أحرقوا البيوت.
وكانت سنوات حالكات على الدولة، فالطولونيون يُحاربونها من الغرب، والصفّاريون يُقاتلونها من الشرق، والروم يغزون أطرافها من الشمال، والذعر ينتشر في جنوبي العراق بسبب تصرفات الزنج وأفعالهم الدنيئة، وعندها شمر الموفق عن ساعد الجدّ فخلّص واسط من الصفاريين عام (262 هجري)، غير أن الزنج قد دخلوها بإمرة سليمان بن جامع، ولكن تمكن
أبو العباس بن الموفق من استرجاعها عام (267 هجري).
ثم ذهب الموفق هو إلى صاحب الزنج، وهو موجود بالقرية التي بناها، وقام بتسميتها (المنيعة)، فغزا الموفق عنوةً، فقام بالقتل والأسر كثيراً، واستولى من (المنيعة) أموالاً كثيرة، كما أنهُ قام بإنقاذ خمسة آلاف امرأة مُسلمةٍ كانت بيد الزنج. ثم سار الموفق إلى بلدة صاحب الزنج الثانية، واسمها (المنصورة)، وبها سُليمان بن جامع قائد الزنج، وتمكن الموفق من دخولها بعد أن قاتل الزنج دونها قتالاً عنيفاً، وكان لها خمسة أسوار، وأنقذ منها عشرة آلاف امرأة مُسلمة جلّهم من أهل البصرة.
وكان الموفق رحمه الله يهدي الزنج إلى رجوعة إلى طريق السلام والحق، والتوبة عما قاموا به، ويعطي الأمان لمن عاد واستنكر فعل صاحب الزنج الدعيّ، ومن أبى قتله، وفوق كل هذا فقد عمل الموفق على إزالة الأسباب التي دعت إلى حقد هؤلاء الزنوج بإزالة الفوارق التي وجدت، والمعاملة الإسلامية التي يجب أن تسود، وإكرام الخدم كل هذا أدى إلى عودة الكثيرين.
ومن ثم بعث رسالتاً إلى صاحب الزنج يهدي به إلى التوبة ورجوعه إلى الطاعة مرة أخرى عما ارتكبه من الأخطاء والأجرام، ودعوى النبوة، واستحلال ما أنهى الله عنه، وإعطاؤه الإستقرار الأمان، فرفض صاحب الزنج هذا الكتاب، فعدّها الموفق إهانةً واستخفافاً، وسار من فوره على رأس خمسين ألفا نحو مدينة صاحب الزنج (المُختارة)، وحاصرها، وقدّم ابنه أبا العباس بين يديه فهزم من خرج إليه وثبت (بهبوذ)، كبير أمراء صاحب الزنج.
ثم نادى الموفق بالأمان لأصحاب الدعيّ فطلبه كثيرون، وانتقلوا إلى صفّ الموفق، وأصبحوا على صاحب الزنج بعد أن كانوا معه. وبنى الموفق مدينة تجاه مدينة (المُختارة)، وجلب إليها الأرزاق كافةً. وجرت الحروب بين الطرفين طيلة عام (267 هجري)، وفي العام التالي دخل المسلمون المُختارة دون رأي الموفق، ووصلوا إلى وسط المدينة، فخرجت إليهم كمائن الزنج من حيث لا يدرون فاضطروا إلى الفرار.
وظفر أبو العباس بمجموعة من الأعراب كانوا يأتون بالطعام والمؤن إلى الزنج فقتلهم، كما ظفر ببهبوذ بن عبد الوهاب فقتله، وهو كبير أمراء صاحب الزنج. وتمكن الموفق بعد أن عوفي من سهم أصابه أن يجدّد القتال، وأن يدخل المختارة عام (269 هجري)، وهرب صاحب الزنج إلى مدينة أُخرى فتحصّن بها فأرسل الموفق وراءه لؤلؤ مولى أحمد بن طولون الذي جاءه مُفارِقاً سيّده، فكان طليعةً لجيش الموفق.
وفرَّ صاحب الزنج من المدينة التي كان يتحصّن بها، فقام بإرسال الموفق السرايا خلفه فجلبوا برأسه، وأسروا الحاكم سُليمان بن جامع، وعاد الموفق إلى مدينة الموفقية، ثم جيء له بابن صاحب الزنج (انكلاي)، وعلي بن أبان المهلبي أسيرين، وانتهت بذلك حركة الزنج بعد أن دامت أكثر من أربعة عشر عاماً (255 – 270 هجري).
وتحرّك الزنج ثانيةَ في مدينة واسط عام (272 هجري)، ونادوا (انكلاي يا منصور)، فاستدعى الموفق أسرى الزنج، وكانوا في سجن بغداد، وقتلهم، وفي مقدمتهم انكلاي، وسليمان بن جامع، وعلي بن أبان المهلبي فانقطع أمل الزنج بقادتهم، ثم ضرب المُشاغبين ضربةً قاصمةً سكنوا بعدها نهائياً.
حركة الروم:
نستطيع أن نقول: إن الروم في هذه المرحلة قد بدأت كفتهم ترجح على المسلمين وإن لم يكن رجحاناً واضحاً إلا أنهم قد تشجّعوا على دخول بلاد المسلمين، أو أن هيبة المسلمين قد قلت في أعيُّن الروم بعد أن كانت كبيرةً. وخاصة بعد حركة الزنج واستفحال أمرها، وانشغال الدولة
بها، وبقتال الإمارات الأخرى.
وثب بسيل الصقلبي عام (257 هجري)، على ميخائيل بن تيوفيل ملك الروم وقتله وغلب على الملك، وكان ميخائيل قد حكم بلاد الروم مدة أربع وعشرين سنة . وهاجم الروم سميساط، وغلبوا عليها، وانتقلوا إلى (ملاطية)، فحاصروها فنفر عليهم أهلها وأعانهم الله فانتصروا عليهم وردّوهم على أعقابهم خاسرين.
غير أن الروم تمكنوا في عام (260 هجري)، من أخذ (لؤلؤة) من أيدي المسلمين، وهي إحدى قلاع الثغور. ودخل المسلمون بلاد الروم عام (264 هجري)، في أربعة آلاف مُقاتل بإمرة عبد الله بن رشيد بن كاوس غير أنهم هُزموا وأسر أميرهم . وفي العام التالي (265 هجري)، خرج بطارقة الروم في ثلاثين ألفاً إلى بلاد المسلمين من جهة (أضنة) ووصلوا إلى مُصلّى المدينة، وقد أسروا والي الثغور (أرخوز)، ومعه أربعمائة مسلم.
وقضى البطارقة أربعة أيام بالقرب من (أضنة)، ثم عادوا إلى بلادهم، وكرّر البطارقة هجومهم في العام التالي (266 هجري)، ووصلوا إلى ديار بكر، وأسروا (250) مسلماً فنفر لهم أهل نصيبين فرجع الروم وقد قُتل بطريق البطارقة. وغدا بعد ذلك جزء من ثغور بلاد الشام يتبع الطولونيين فسار عام (266 هجري)، (300)، من أهل طرسوس، ودخلوا بلاد الروم، فخرج عليهم أربعة آلاف من أعدائهم فانتصر المسلمون رُغم قلتهم.
وقتلوا عدداً كبيراً من الروم. وجاء مائة ألف من الروم فنزلوا قرب طرسوس عام (270 هجري)، وكانوا بإمرة بطريق البطارقة، فخرج عليهم المسلمون، وهزموهم، وقتلوا الكثير منهم، ومنهم بطريق البطارقة. وفي عام (273 هجري)، قُتل بسيل الصقلبي ملك الروم بعد أن حكم ثلاث عشرة سنة، وقد عدا عليه أولاده، فقتلوه، واستلم الأمر بعده أحدهم. وفي عام (274 هجري)، غزى نائب طرسوس (يازمان) بلاد الروم، وأوغل فيها، وقتل كثيراً، وغنم.