الخليفة أبو إسحاق محمد المعتصم:
التعريف بالمعتصم: هو أمير المؤمنين أبو إسحاق محمد المعتصم بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور العباسي، يُلقبونه (المثمّن) لأنه ثامن ولد العباس وثامن الخلفاء من ذريته، ومنها أنه تمكن من إحراز ثماني فتوحات، وأقام في الخلافة ثماني سنوات وثمانية أشهر وثمانية أيام، وأنه ولد سنة ثمانين ومائة فى شعبان وهو الشهر الثامن من السنة، وأنه توفي وله من العمر ثمانية وأربعون عاماً، وأنه خلف ثمانية بنين وثماني بنات.
كان أُمياً لا يٌحسن الكتابة، إلا أنه تم وصفه بأنه جندي مقدام وشجاع، مُدرّب في الحرب، كما وصفوه بقوته البدنية. بايعوا له بالخلافة يوم وفاة أخيه المأمون في منطقة بطرسوس. وقد سعى بعض الأمراء إلى تولية العباس بن المأمون، لكن هذا الأخير أسرع إلى مبايعة عمه احتراماً لوصية والده وتسكيناً للجند.
قاد المعتصم الدولة العباسية قيادةً استبداديةً مربوطةً بصفاته من العطف وحسن التدبير، ومما تميز بشجاعته ونجاحه، وكان قوي البأس والمهابة. كان مُحباً بتصميم وزخرفة العمارة والزراعة والتجارة وكرَّس حياته لبناء القصور وتخطيط الحدائق والبساتين.
الأوضاع الداخلية في عهد المعتصم:
الحركات الطالبية:
لم تكن أساسيات المعتصم اتجاه الطالبيين أقل شدة من أساسيات الخلفاء العباسيين الذين كانوا من قبله؛ باستثناء المأمون. وقد ظهر في عهد المعتصم، محمد بن القاسم بن علي الزيدي في عام (219 هجري/ 834 ميلادي)، بالطالقان، فظهر حوله الكثير من سكان كور خراسان.
لكن حركته لم تكن مدروسة بشكل جيد؛ ولم تُشكل مشكلة جدية على حكم المعتصم، الذي أمر قائده عبد الله بن طاهر أمير خراسان، فقام لمواجهته وتمكَّن هذا القائد من الانتصار، والقبض عليه وأرسله إلى منطقة سامراء حيث سجن فيها، إلا أنه فرَّ من سجنه بمساعدة رجال من وتوارى أيام المعتصم والواثق ثم أخذ في أيام المتوكل، فسجن ومات في سجنه. ويبدو أن عوامل إخفاق حركته، رغم انتشارها، تعود إلى ثلاثة عوامل وهي:
- قوة الدولة العباسية في عهد المعتصم.
- منظور محمد بن القاسم بآراء الزيدية والجارودية، التي لم تكن توافق كثيراً من الزيديين، خاصة زيدية الكوفة، بالإضافة إلى حقد الزيدية من أتباع أبي الجارود.
- اعتقاد محمد بن القاسم بآراء المعتزلة.
وتوفي في عهد المعتصم في عام (220 هجري/(835 ميلادي)، محمد الجواد بن علي الرضا، تاسع أئمة الإمامية الاثني عشرية. وقد اطمأن المعتصم لهذه الوفاة، بعد أن خشي أن يُنافسه على الحكم، ويطالبه بتولي الخلافة، على اعتبار أن أولاده من سلالة المأمون من زوجته أم الفضل.
حركة الزط:
من المواجهات والمشاكل التي حدثت مع المعتصم وأثقلت كاهله أثناء خلافته، حركة الزط، الذين تمكنوا من السيطرة على طريق البصرة، وهدّدوا مرافق الدولة، وفرضوا المكوس على السفن، وحالوا دون وصول الإمدادات إلى بغداد، فوجَّه إليهم قائده عجيف بن عنبسة في عام (219 هجري/(834 ميلادي)، لصدهم في البطيحة، وشدَّد عليهم حتى طلبوا الأمان، فنفاهم الخليفة إلى عين زربة.
القضاء على حركة بابك:
كان المعتصم عند حُسن الظنِ به. فقد تشكلت حرب ضد البابكية حتى أنهى على حركتهم في عام (223 هجري)/(838 ميلادي)، فقد ركَّز جُلَّ تركيزه بجهوده، بعد استقرار الوضع الداخلي، على حرب بابك وأرسل الحملة تلو الحملة ضده. ومن جهة أخرى فقد تفاقم خطر بابك بعد أن دخلت أذربيجان فى حوزته، فنشر الرعب فى المنطقة الممتدة حتى إيران. وتمكنت إحدى الفرق العباسية بقيادة إسحاق بن إبراهيم بن مصعب أن تقضي على أتباعه في إيران في عام (218 هجري)/(833 ميلادي).
وعين المعتصم في عام (220 هجري)/(835 ميلادي)، أعظم قادته وهو الأفشين حيدر بن
كاوس قائداً على الجبال، وأصدر أمر بقتال بابك. تميز هذا القائد بتوخيه الحذر الشديد، والخبرة بالطرق الجبلية الصعبة. فاتبع خطة عسكرية مرنة تستند على التقدم البطيء. فعسكر في برزند من نواحي تفليس، وضبط الحصون والطرق فيما بينه وبين أردبيل، ووزع جنده على مختلف القلاع والمواقع.
لقد كان المعتصم يُزوده بالمُؤن والإمدادات، كما أنه كان يُنفق على الجند باستمرار. ورتب البريد، وجهز الطرقات لتأمين التجارة وحركة الاتصالات بسرعة وسلام. حتى أصبح تبادل الرّسائل بينَ سامراء ومُعسكر الأفشين يَستغرق وقتاً أقل من التي كان يستغرقُها من قبل. كما استُعمل الحمام الزاجل لنقل المعلومات لأول مرة في هذه الحرب. وكان يُشرف على سير المعارك من سامراء، ويضع الخطط العسكرية بنفسه. وبذلك أضحى للمسلمين سلسلة من الحصون المتماسكة في مواجهة بابك.
ولجأ الأفشين إلى استخدام أساليب التجسس كي يُضعف قوة خصمه ويكون على درايه بخططه. فكان يجذب من يظفر به من جواسيسه، فيضاعف لهم المكافئات ويسخرهم في التجسس له. أدرك بابك على الفور أنه يواجه هذه المرة قائِداً مُحنكاً، وحتى يخفف الضغط عن قواته في أذربيجان، ناشد الأمبراطور البيزنطي ثيوفيل بمهاجمة الأراضي الإسلامية، ووعده بأن يعتنق النصرانية.
نتيجة هذا الاحتقان كان لا بدَّ أن يقع الصِدام بين الجانبين، بعد هذه الاستعدادات العسكرية، فأصدر الخليفة أوامره إلى الأفشين ببدء العمليات العسكرية وحدَّد له أول هدف عسكري، بعد اضطرار بابك إلى التحصن فيها على أثر معركة أرشق. لم يتسرع الأفشين في تقدمه نحو البذ، وأخذ يزحف مُتأنياً حتى وصلها وضرب عليها حصاراً مركزاً، مُتخذاً من مدينة روذ الروذ مُعسكراً جديداً لقواته. وحاول بابك في غضون ذلك استمالته لكنه لم ينجح. وبقي الأفشين محاصراً البذ حتى تمكن من دخولها يوم الجمعة في العاشر من شهر رمضان عام (222 هجري) شهر آب عام (837 ميلادي).
هرب بابك، بعد انهيار البذ، إلى منطقة تُسمى أرمينيا، فبعث جيش الأفشين إلى مُلوكها وأمرائها بسد الطرق عليه. وتُذكر المصادر أن البطريق سهل بن سنباط تعرَّف على مكان اختبائه فأمَّنه ثم غدر به وسلمه إلى الأفشين. وجيءَ ببابك إلى سامراء في شهر صفر عام (223 هجري) شهر كانون الثاني عام (883 ميلادي)، ومعه أخوه عبد الله. وكان يوم وصوله يوماً مشهوداً. فقد ألبسه الجند ثيابه الأرجوانية، ووضعوه على ظهر فيل، وطافوا به في شوارعها.
وعندما أصبح في مجلس الخليفة نزع عنه الجند ما كان يلبسه، ثم قاموا بقطع يديه ورجليه وراحوا يدخلون سيوفهم ورماحهم ببطء في جسده، متجنبين إصابته بمقتل ليطيلوا أمد عذابه. وأخيراً قطعوا رأسه. وأرسله الخليفة إلى بغداد حيث عرض على الناس، بينما صلبت جثته وعرضت في سامراء. وصلب معه أخوه عبد الله. فانتهت بذلك هذه الحركة التى شغلت جانباً من اهتمامات الخلافة منذ عهد المأمون.