الأعمال التي اشتهرت بها الطبقة الوسطى في العهد الفرعوني
كان الكتبة والحرفيون يعرفون بإبداعهم في الرسم والتشكيل ويستخدم البعض منهم فرشاة من البوص للرسم وينحت البعض منهم الحجر بالمنقاش، فلم يكن غنى عنهم لحياة الدولة فقد قاموا بتكوين طبقة وسطى خاصة بهم اعتباراً من الأسرة الخامسة يتلقون أجوراً عينية مقابل أعمالهم الإضافة إلى المنح والهبات، فتمتعوا بنعومة العيش لأن معاملتهم الكبرى كانت مع الأشراف وكبار الموظفين.
الكتبة
كانت وظيفة الكاتب في العهد الفرعوني وظيفة مهمة ولم يقارن بها أي عمل آخر، عندما يترعرع الكاتب يحيّيه الجميع حتى لو كان صبياً؛ فكل المهن لها رئيس إلا الكاتب هو سيد نفسه، فمنذ عصر أولى الأهرامات كان يطيب للأمراء بأن يصوروا أنفسهم في وضع الكاتب جالسين وبيدهم كتاب وغارقون في القراءة، وهذا ما زاد من النفوذ الروحاني إلى رفعة منزلتهم الدنيوية، حتى الفرعون بحد ذاته كان يعتبر نفسه كاتباً في بعض الأحيان.
كانت الأدوات التي يستخدمها الكتبة بسيطة فهي تقتصر على ورق البردى وأقلام من ساق نبات البوص، ولوحة الكتابة بها فجوتان يوضع فيهما قرصان من المداد الجاف الأسود والأحمر؛ فالأول يستخدم للكتابة العدية والثاني يستخدم ليبرز بعض المقاطع المهمة.
يتم تعليم مهنة الكتبة في مدارس أطلق عليها المصريون القدماء اسم (برعنخ) والذي يقصد به (بيت الحياة) وتلحق هذه المؤسسة الثقافية في أغلب الأحيان بأحد المعابد، ويعود السبب لهذه التسمية بأن اللغة الشفوية أو المكتوبة تضفي الأبدية إلى ما تعبّر عنه كما زاول أيضاً أفراد بيت الحياة الطب.
كان المعلمون يقومون بالتدريس في هذه المدارس والتلاميذ يتدربون على إعادة نسخ النصوص الدينية أو الأدبية مراراً وتكراراً، فيتاح لهم التعرف على كتابات القدماء والحكمة والعلوم التي تجمعت تدريجياً على امتداد مئات السنين، واعتبر الكتبة كبار حفظة التراث المصري والأمناء عليه كما أنهم كانوا يعدون أحياناً مكتبات حقيقية لأثرياء الهواة.
ولم يتوقف نشاط الكتبة إلى هنا فحسب بل كان لهم دور كبير في الأداة الرئيسية من كل أجهزة الإدارة المركزية والإقليمية على حد سواء بالإضافة لدورهم في القضاء والجيش.
الحرفيون والفنانون
فكانت أعمالهم كثيرة ولها أشكال عديدة مثل التماثيل والنقوش الغائرة أو البارزة أو مرسومة كالقصور الملونة أو مجسمة كالفنون التطبيقية، إن كل من تعامل مع المادة سواء كانت من الحجارة أو الخشب أو المعدن كان ضرورياً على قدم المساواة لحياة مصر، فقد أبدعوا الكثير من الأشكال المفيدة للحياة والاستمرار بعد الوفاة.
لقد أتاح عملهم المثابر بأن استطاعوا إقامة المعابد والقصور والأهرامات والمقابر والتي كان تحتاج إلى مجهود جماعي عالٍ، فقد شارك في ذلك قطاعات من كافة المهن بفضل حنكتهم ومهارتهم في بناء عظمة مصر، كانوا أشخاصاً يكنُّ لهم كامل الاحترام والتقدير دون تمييز بين حرفيين وفنانين.
لم يكن الفن المصري فناً تأملياً فقد كان له هدف ديني ومبادئ أساسية تشكلت منذ فجر التاريخ حتى نهاية تاريخ مصر، كما كانت المدارس تدرّس التلاميذ الكتبة الأشكال التي كرستها السنين وتورثوها من أجدادهم بسبب فاعليتها الكبيرة من ناحية الشعائر الدينية.
كان الحرفيون يفتخرون بمعرفتهم للأساليب التقنية السليمة ومهاراتها كما أنهم كانوا يورثون ابنهم البكر في كثير من الأحيان خبرتهم وما تعلموه على مدار السنين، فكان هناك كبير من الحرفيين والرسامين من الأسرة الفرعونية الثانية عشرة يتكلم بشكل متفاخر ومتشامخ قائلاً:
إني أعرف هيئة تمثال الرجل ومشية المرأة والمظهر المنحني لمن يضرب، وأعرف كيف أجعل عيناً ترى الأخرى وأعرف الملمح المذعور لمن يوقظه من نومه، كما إني أعرف كيف أشكّل الصلصال والمواد التي يتم ترصيعها دون أن تحترق في النار والتي لا يفقد الماء لونها فلم يطّلع أحداً غيري على ذلك أنا وابني الذي من صلبي.
استطاعت عبقرية الفنان الشخصية في حدود التقيد بالقواعد الرسمية التي حددت أن تجعل الشكل الذي تبدعه يتفجر بالحياة، كما كان يكشف عن الحالة النفسية أو سجايا فريدة أو قوة موقف معين، كما له القدرة على التعبير عمّا يجيش في نفسه من انفعالات، فكانت حساسية الانسان المصري الكبيرة وحبّه الشديد للحياة بجميع أشكالها أن تظهر بكل وضوح في أعمال الحرفيون والفنانون.
تحدثنا في هذا المقال عن جمال وروعة الفن في العهد الفرعوني وما يدّل على ذلك الروعة اللامتناهية إلى يومنا هذا من التاريخ المصري العظيم.