الملامح الرئيسية للاتجاه الظاهراتي في علم الاجتماع:
تعرض علم الاجتماع بصفة عامة والنظرية الاجتماعية بصفة خاصة، وما يتضمناه من قضايا منهجية ونظرية للكثير من الشك والنقد من جانب الشباب من دارسي علم الاجتماع، الذين لم يقتنعوا بما درسوه عن الوضعية والامبيريقية والوظيفية، وخاصة مع التغيرات العميقة التي حدثت في المجتمعات الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، والأزمات التي مر بها العالم الرأسمالي.
فقد اكتشف الكثير من الشباب وخاصة من أبناء الطبقة الوسطى خرافة الليبرالية، بما تتضمنه من أوهام إتاحة الفرصة للجميع لتحقيق النجاح في المجتمع وزيف الأيديولوجيات النفعية، وفي ذلك يقول ألفن جولدنر في كتابه الأزمة المقبلة لعلم الاجتماع الغربي.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية شهدنا بدايات مقاومة عالية جديدة ضد ذلك النوع من المجتمعات، الذي ينتظم حول قيم نفعية، وهي مقاومة ضد القيم الصناعية بوجه عام وليست مجرد القيم الرأسمالية، وتلك موجة جديدة من موجات المقاومة القائمة للثقافة النفعية، التي بدأت فور ظهور هذه القيم في القرن الثامن عشر، والتي تبلورت آنذاك في الحركة الرومانسية في القرن التاسع عشر.
وقد اتخذت هذه المقاومة لقيم المجتمع الرأسمالي الصناعي صوراً كثيرة، فعلى المستوى السلوكي استعان العديد من الشباب إلى امتناع هذه القيم وما يرتبط بها من تصرفات، وانسحبوا من المجتمع سلبياً دون أن يحاولوا إحداث تغيير جذري فيه واستبدلوا هذه القيم أخرى تتمركز في معظمها حول الغوص في الذات والتعبير عنها بحرية، وكان تجسيد ذلك فيما سمعنا عنه من حركات الهيبز وجماعات العقاقير المخدرة.
أما على المستوى الفكري فأن الشباب “وبخاصة الشباب المثقفون في العلوم الاجتماعية” قد لجأوا إلى رفض الاهتمام بدراسة أو فهم الواقع الموضوعي، وارتدوا مثل جماعات الهيبز إلى الاهتمام بالذات من الداخل أملين أن يكشفوا معنى الحياة من خلال ذلك بعد أن فشلوا في فهمها مستخدمين الأطر النظرية في العلوم الاجتماعية.
وفي مقابل ذلك لجأ فريق آخر من الشباب إلى المقاومة الإيجابية لقيم المجتمع الرأسمالي ونظمه من جهة وﻷيديولوجيته النفعية من جهة أخرى، فعلى المستوى السلوكي تكونت جماعات سياسية راديكالية تدعو إلى إحداث تغيير جذري في المجتمع مثل جماعة الطلبة من أجل مجتمع ديمقراطي في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى المستوى الفكري، لجأ المثقفون خاصة من بين دارسي علم الاجتماع إلى النقد الجذري للأيديولوجية النفعية وما يرتبط بها من نظريات اجتماعية، ووجدوا في الماركسية خير معين لهم.
وعلى ذلك فإن الاتجاه الفينومينولوجي يمكننا التأمل إليه بكونه رد فعل محافظ ﻹخفاق الوضعية والوظيفية في مواجهة الاتجاهات الراديكالية، التي تعبر عن رد سلوك ثوري ﻹحباط نفس هذه الاتجاهات، ويشبه هذا الموقف المعاصر ذلك الموقف السابق الذي تكوّن كرد سلوك لإخفاق الفلسفات الميتافيزيقية إبان عصر التنوير.
فقد انقسم الفكر آنذاك أيضاً كما رأينا إلى فكر محافظ وفكر ثوري، وقد اقتضى ذلك الموقف الجديد القائم على نقد الاتجاهات الفكرية المعاصرة مثل الوضعية والوظيفية العودة بالطبع إلى الاهتمام بأعمال الآباء المؤسسين لعلم اجتماع، فبالإضافة إلى اعتماد علماء الاجتماع الظاهراتي على أعمال الفلاسفة الظاهراتيين أمثال هوسرل اعتمدوا أيضاً على أعمال علماء الاجتماع الكلاسكيين، وبخاصة ماكس فيبر واميل دور كايم.
بدأ علماء الاجتماع الظاهراتيون بنقد الافتراضات التي يرتكز عليها الاتجاه الوضعي في علم الاجتماع، وكذلك الاتجاه الوظيفي، وكان أهم تلك الافتراضات التي نقودها ذلك الافتراض المتعلق بوحدة المنهج العلمي، وبتشابه الظاهرات الطبيعية والاجتماعية وتقبل الوضعية لواقع حياة الخبرة اليومية على أنه حقيقة قائمة.
وبدلاً من ذلك اهتم أصحاب الاتجاه الظاهراتي في علم الاجتماع بفحص الافتراضات الشائعة التي ترتكز عليها الأعمال العلمية وابتداع منهج مناسب لدراسة العالم الاجتماعي، الذي يتمثل في الوعي القصدي لدى الأفراد، وما يتضمنه ذلك الوعي من معان، ودعوا إلى ضرورة عدم اهتمام عالم الاجتماع بمجرد إعادة تفسير الخبرة اليومية، وتجاوز ذلك إلى محاولة فهم العملية الذاتية التبادلية لتكوين المعنى لدى الأفراد.
ويعني ذلك أن المعنى الذي يضفيه الأفراد علة العالم الاجتماعي ووعيهم بذلك العالم يجب أن يكون هو المادة الأساسية التي يهتم علماء الاجتماع بدراستها، فالعالم الاجتماعي في رأى الظاهراتية الاجتماعية هو نتاج لتفسيرات ومقاصد الإنسان أي أنه عالم ذاتي.
وبذلك فإن دراسة ذلك العالم يمكن أن تتم عن طريق أساليب مثل المحادثات وتحليل اللغة، وتصبح وظيفة علم الاجتماع هي وصف تلك العمليات التي يتم بواسطتها تشييد العالم الاجتماعي من خلال الإجراءات التفسيرية.