المنهج والفلسفة الوضعية عند أوجست كونت في علم الاجتماع

اقرأ في هذا المقال


المنهج والفلسفة الوضعية عند أوجست كونت في علم الاجتماع:

إن أول من استخدم لفظ الوضعية هو هنري كونت سان سيمون، وكان يعني به استخدام الطريقة العلمية وتطبيقها على الفلسفة، وقد تبنى أوجست كونت هذا اللفظ وصاغ حوله نظرية فلسفية اجتماعية عامة انتشرت على نطاق واسع في بلدان العالم الغربي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والعقود الأولى من القرن العشرين.

وقد رأى كونت أن الوضعية تمثل الأساس الذي يجب أن ترتكز عليه كل محاولات التنظيم الاجتماعي للقضاء على الفوضى الاجتماعية، التي تتمثل في الحركات النقدية، التي كانت توجد في أوروبا في عصره من وجهة نظره، ولفظ الوضعية يعني الإيجابية أو اتخاذ موقف إيجابي ممّا هو قائم في المجتمع وليس موقفاً نقدياً أو رفضاً أو سلباً لهذه الأوضاع القائمة كما يفعل المفكرون النقديون.

وهنا نرى ترجمة لإيديولوجية كونت إلى مبادئ نظرية، فهو يتبنيه الفلسفة الوضعية الإيجابية قد اقر مبدأ النظر إلى الواقع الاجتماعي القائم نظرة إيجابية وقبوله على ما هو عليه واستبعد منذ البداية أي محاولة لنقده أو لتغييره، وهذا الواقع هو التنظيم الاجتماعي الرأسمالي القائم على الملكية الخاصة وعلى الحكم المطلق.

وقد رفض كونت أن ترتبط النظرية الاجتماعية بأي فلسفة نقدية أو سلبية، كما رفض أن يولي أي اهتمام للاقتصاد السياسي كأساس لفهم المجتمع، ورأى أن أي معارضة للحقائق الاجتماعية الواقعة يجب أن تمحى من المناقشة الفلسفية، وقد خالف كونت فلاسفة عصر التنوير الفرنسيين الذين كانوا يقيسون العمل الإنساني أو الفاعلية الإنسانية بمقياس حقيقة تعلو على النظام الاجتماعي القائم أي بتنظيم اجتماعي لا يوجد بوصفه واقعاً بل يوجد بوصفه هدفاً والذين رأوا أن الناس يمكنهم تغيير أشكال الحياة الحالية التي يعيشون عليها.

وبدلاً من ذلك رأى كونت أن النظام الاجتماعي القائم هو وحده الذي يمثل الحقيقة، وأن وظيفة عمله الجديد هي مجرد تسجيل حقائق هذا النظام وبذلك كانت نظرية كونت الوضعية منذ نشأتها دفاعاً أيديولوجياً عن مجتمع الطبقة البورجوازية، كما كانت تحمل بذور تبرير فلسفي للنزعة التسلطية وعودة ﻹلغاء العقل والتشهير به.

وأكد كونت بفلسفته الوضعية فكرة عجز الإنسان عن تغيير عالمه الاجتماعي، وذلك بسلب ملكة النقد عنده وجعله أسير الواقع الذي يعيشه وإصراره على حرمانه من إعمال عقله وتصور واقع آخر مستقبلي يقيس عليه واقعه الحاضر.

ويرى هربرت ماركيوز الفيلسوف الأمريكي أن وضعية كونت تشترك مع فلسفات الثورة المضادة لعصر التنوير في عنصر أساسي هو رفض القول بأن الإنسان قادر على تغيير نظمه الاجتماعية وإعادة تشكيلها وفقاً ﻹدارته العاقلة.

ومن أبرز فلاسفة الثورة المضادة بونال وديمستر، فقد أراد بونال أن يثبت أن الإنسان لا يستطيع أن يضفي تركيباً معيناً على المجتمع الديني أو السياسي، تماماً كما لا يستطيع أن يعطي الجسم وزناً أو المادة امتداداً ورأى أن تدخل الإنسان لا يؤدي إلا إلى منع المجتمع من بلوغ تركيبه الطبيعي، كما أراد ديمستر أن يبين أن العقل الإنساني لا يزيد سعادة الدول أو الأفراد شيئاً، وأن هذا العقل لا جدوى منه على الإطلاق ومن الواجب قمع أي روح ثورية بنشر تعاليم أخرى تقول أن للمجتمع نظاماً طبيعياً ثابتاً ينبغي أن تخضع له إرادة الإنسان.

لقد روج كونت في فلسفته الوضعية لفكرة القوانين الثابتة التي تحكم الظاهرات الاجتماعية تماماً مثلما تحكم الظاهرات الطبيعية والبيولوجية، ونحن نؤكد على حقيقة أن وظيفة الفلسفة بوجه عام هي الكشف عن القوانين العامة والثابتة نسبياً التي تحكم الكون وأن وظيفة العلم الاجتماعي هي الكشف عن القوانين العامة والثابتة نسبياً التي تحكم المجتمع.

ولكننا في نفس الوقت نرى أن كونت قد خلط عن قصد بين ثبات القوانين والظاهرات التي تحكمها القوانين، وقدم مفهوماً غير علمي على الإطلاق للقانون، فالقانون العلمي في أساسه قاعدة للتغير وليس للثبات في الظاهرة التي يتناولها، ولو لا تغير الظاهرات لما كانت هناك بنا حاجة ﻷي قوانين.

وقد ذكر كونت في مؤلفيه الأساسين، دروس في الفلسفة الوضعية، ومذهب في السياسة الوضعية، صراحة وفي أكثر من موضع أن فلسفته الوضعية هي السلاح الوحيد القادر على محاربة القوة الفوضوية، وهي وحدها التي يمكن أن تنجح في امتصاص النظرية الثورية الشائعة، والحق أنه نذر أن تجد في الماضي فلسفة تطالب بمثل هذا الإلحاح وبمثل هذه الصراحة بأن تستخدم في حفظ السلطة القائمة، وحماية المصالح الموجودة من كل هجوم ثوري.


شارك المقالة: