الموقف الأيديولوجي عند إميل دوركايم في علم الاجتماع

اقرأ في هذا المقال


الموقف الأيديولوجي عند إميل دوركايم في علم الاجتماع:

احتل دوركايم مكانة بارزة في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر، وحتى وفاته في عام 1917، سواء في الأوساط الأكاديمية أو الإدارية أو السياسية، كما يجب أن نذكر أيضاً أن نظرياته وآراءه عن المجتمع بصفة عامة، وعن التربية والأخلاق والسياسة بصفة خاصة، قد لقيت رواجاً كبيراً في الأوساط البورجوازية والحكومية الفرنسية في ذلك الوقت.

فقد تولى إميل دوركايم رئاسة هيئة تحرير الحوليات السوسيولوجية، منذ عام 1898 حتى الحرب العالمية الأولى في سنة 1914، كما أنه قد شغل مركزاً مهماً جداً في المؤسسات التربوية، التي تحكمها الدولة في فرنسا، وأدى به قيادته هذا إلى أن يتحكم إلى حد كبير في انتقاء العلماء والأساتذة الذين يعينون في معاهد التعليم العالي.

وعلى الرغم من أن إميل دوركايم كان على معرفة ودراية واسعة بالكتابات الاشتراكية التي ظهرت في فرنسا بل وفي أوروبا بصفة عامة منذ الثورة الصناعية، إلا أنه قد اتخذ موقفاً محدداً وواضحاً من الأفكار الاشتراكية حيث هاجمها، وتعتبر أعماله ومؤلفاته جميعاً محاولة لتقديم بديل الاشتراكية بل أن علم الاجتماع الذي قدمه دوركايم كما يقول ريموند آرون ليس سوى بديلاً للاشتراكية.

ويمكننا أن نستدل على موقف إميل دوركايم من كل من الفكر الرأسمالي البرجوازي والفكر الاشتراكي من مجموعة من المؤلفات التي نشرت بعد وفاته وكان قد ألقاها على شكل مجموعة من المحاضرات تدور كلها حول فكرة الاشتراكية ومهاجمة المبادئ التي تنهض عليها، ومن هذه المقالات مقال بعنوان le socialism، أو الاشتراكية.

ولقد اعترض دوركايم اعتراضاً كاملاً فكرة إعادة توزيع الثروة أو تحقيق أي نوع من التكافؤ في الملكية أو إلغاء الملكية الخاصة، ورأى أن سبب المشكلات في المجتمع الحديث أي المجتمع الرأسمالي الذي كان يعيش فيه، ليس سبباً اقتصادياً بقدر ما هو سبب أخلاقي، وبالتالي فإن الصراع بين العمال وبين أصحاب الأعمال ليس سوى دليلاً على تفكك المجتمع أو على حدوث حالة من اللامعيارية في ذلك المجتمع، والذي يجب عمله هو مجرد تصحيح هذا الوضع ولا يأتي ذلك إطلاقاً عن طريق إعادة توزيع الثروة أو تعديل النظام الاقتصادي، ولكن ذلك يمكن أن يحدث من خلال تحقيق ما أسماه بالإجماع أو الاتفاق الجمعي، ويمكن أن يتم ذلك عن طريق التربية.

وعارض دوركايم التفسير الماركسي للتاريخ على أساس أنه يمثل سلسلة أو حلقة من الصراعات الطبقية بين من يملكون وبين من لا يملكون، ويمكننا أن نلاحظ هنا وجه شبه كبير بين آراء دوركايم وآراء أوجست كونت وفي مقابل دعوه أصحاب الفكر الاشتراكي إلى العدالة الاجتماعية وإلى تضامن الطبقات المغلوبة على أمرها والمقهورة وثورتها على الظلم الواقع عليها من الطبقات المستغلة.

دعا إميل دوركايم إلى التضامن الاجتماعي أو التماسك الاجتماعي، فكان فيلسوف حركة سميث بالتضامن الاجتماعي في فرنسا، كانت تدعو إلى أن يتضامن كل المواطنين في الجمهورية الفرنسية من أجل تحقيق الخير للجميع، ورأى دوركايم أن النظام الاجتماعي يحتاج إلى شيء ضروري لا بدّ أن يتوافر لدى المواطنين وذلك الشيء، هو الرضا بما قسم لهم فيجب على كل الناس أن يقنعوا بما لديهم، ولكي يقنعوا بذلك لا بدّ من أن تقدم لهم أساليب التربية المختلفة الأدلة على أن ليس لهم الحق في أن يطلبوا أكثر ممّا لديهم، ولذلك فإنه من الضروري أن توجد سلطة قوية في المجتمع يعترف بها الناس تسن القوانين التي تلزمهم بأن يقنعوا بحالتهم الراهنة ولا يجب إطلاقاً أن يترك الأفراد لكي يتطلوا إلى أشياء ليست من حقهم.

هذه هي أيديولوجية إميل دوركايم كما عبر عنها في أفكاره عن الاشتراكية، وعن التعليم ولكن هذه الأفكار الأساسية والرئيسية هي ذاتها التي صاغ حولها كل نظريته الاجتماعية، بعبارة أخرى نستطيع أن نقول أن إميل دوركايم شأنه شأن أوجست كونت وغيره من علماء الاجتماع الوضعيين قد بدأ في الواقع بالتسليم بمشروعية النظام الاجتماعي الاقتصادي القائم في مجتمعه ورأى أنه هو الأنسب والأصلح للبشرية جمعاء، ولكي تكتسب هذه الفكرة قوة في الإقناع فإنه قد صاغ حولها نظريات بالغة التعقيد استخدام فيها كثيراً من المفهومات وأضفى عليها صفة العلمية، ليس هذا فحسب بل أنه أقام حولها علماً بأسره.


شارك المقالة: