النموذج المثالي عند فيبر في علم الاجتماع:
ارتبط اصطلاح النموذج المثالي باسم ماكس فيبر حيث رأى فيه أداه منهجية تعين الباحث في دراسة الفعل الاجتماعي، ويقول أن هذا المصطلح ليس من ابتداعه ولكنه استخدم من قبله في الدراسة العلمية، ويقول إن النموذج المثالي هو بناء وتشييد عقلي يتشكل من خلال ظهور أو وضوح سمه أو أكثر، أو وجهات نظر يمكن ملاحظتها في الواقع، والنموذج الذي يتشكل على هذا النمو يطلق عليه مثالي؛ ﻷنه يتحقق كفكرة كذلك يقول إن من المستحيل أن نجد في الحياة الواقعية ظواهر تنطبق تماماً على النموذج المثالي الذي تم تشييده بطريقة عقلية خالصة والنموذج المثالي يختلف عن المتوسط الإحصائي أو الحسابي كما أنه ليس فرضاً.
ولكنه أداة لتحليل الأحداث والمواقف التاريخية الملموسة، ويتطلب هذا التحليل أن تكون المفاهيم محددة بدقة، وواضحة إلى أبعد الحدود حتى بإمكانها مقابلة النماذج المثالية، فهو نموذج نموذج محدد نقارن به المواقف الواقعية في الحياة، والأفعال التي ندرسها، وهذه الدراسة للواقع الملموس تمكننا من الحصول على العلاقات السببية بين عناصر النموذج المثالي.
ويمكن القول أن فيبر لم يشيد نماذجه المثالية بطريقة استقرائية جامدة، لكنه كان يجمع الخصائص المميزة لهذا النموذج باستخدام استقراء مرن يرتكز على دراسة مستفيضة للبيانات، ثم يلجأ بعد ذلك إلى اختبار السمات التي تتضمنها النماذج المثالية.
ويمكن أن نشير لبعض التعريفات التي أوردها ماكس في إطار استخدامه لفكرة النماذج المثالية، فالعلاقة الاجتماعية تمثل عنده مفهوماً يرتبط بالفعل ارتباطاً منطقياً، ويعرفها بأنها السلوك الذي يصدر عن مجموعة من الفاعلين، إلى المدى الذي يكون فيه كل فعل من الأفعال آخذاً في اعتباره المعاني التي تنطوي عليها أفعال الآخرين، كذلك فالجماعة المنظمة هي التي تمثل علاقة اجتماعية.
نجد فيبر في تعريفه للنماذج المثالية، يقدم تعريفات ثلاثة للسلطة تستند كل منها على صورة مجردة من الشرعية، ولكل منها نموذجه المثالي، فهناك السلطة العقلانية الرشيدة، التي تعتمد إلى قواعد موضوعية، وغير شخصية، وهو النموذج الذي يوجد عموماً في المجتمع الحديث، وهناك السلطة التقليدية التي ترتكز على الاعتماد على قدسية التقاليد، وشرعية المكانة التي يحتلها أولئك الذي يتمتعون بمكانه اجتماعية ممثلة للسلطة القائمة على التقاليد، كما هو الحال في الملكيات، أو الجماعات الملكية القائمة حتى الآن.
وهناك أخيراً السلطة الروحية أو الملهمة التي تستند على الإنتماء التام لقدسية معينة مميزة مثل البطولة، أو نموذج من نماذج الشخصيات، يمتثل لما لديه من مثل وقيم، أو بسبب نظام ابتدعه وطوره زعيم محدد، مثل غاندي وهتلر وغيرهم من الزعماء، ويقول إن من الممكن ظهور نماذج أخرى للسلطة، ولكنه أراد صياغة بعض النماذج السوسيولوجية الهامة بشكل دقيق وتصوري.
وعلى هذا يمكن القول أن نماذج السلطة التي صاغها تمثل بناءات عقلية مجردة، وهناك ملاحظة يجب ذكرها وهي أن فيبر قد ركز في صياغته للنماذج المثالية على الحالات الجمعية أو المجموعات الاجتماعية، ﻷن نقطة الانطلاق عنده تمثلت في أن علم الاجتماع يهتم في المحل الأول بدراسة الأفعال بدراسة الأفعال الاجتماعية، ولذلك نجده يعرف العلاقة الاجتماعية بأنها مجرى الفعل الاجتماعي، والفعل لا يوجد في شكل السلوك الذي يصدر عن فرد أو أكثر، والمجموعات الاجتماعية نتاج للتنظيم الذي تشكله أفعال الأفراد.
وأخيراً فإنه لا يذكر مفهوم البيروقراطية بما تتميز به من صورية، وتسلسل رئاسي وتقنين، باعتبارها شكلاً من أشكال التنظيم الاجتماعي يرتبط باقتصاد التطور والرشد الذين يسودان العالم الحديث، هذا ولم يقصر دراسته للبيروقراطية على الظرف السياسية والاقتصادية التي تسود المجتمعات الرأسمالية، ولكنه اهتم بدراسة ماسماه بالاختراع الإنساني العظيم، الذي ابتدعه الإنسان والذي يتمثل في البيروقراطية، ولا تزال تحليلاته في هذا المجال تلفت أنظار كثير من العلماء الاجتماعيين.
ولذلك يمكن القول إن هذه الأعمال الرائدة في هذا المجال لا تزال توجه كثيراً من البحوث في مجال علم الاجتماع حتى اليوم، ولقد ترك فيبر تأثيراً واضحاً على كثير من علماء الاجتماع، ونذكر منهم تالكوت بارسونز الذي ترجم بعض أعمال فيبر إلى الإنجليزية، وعلى وجه الخصوص كتابه الأخلاق البروتستانتيه وروح الرأسمالية، ونظرية التنظيم الاجتماعي والاقتصادي، وقد كان لترجمة أعماله إلى الإنجليزية والدور الذي لعبه تلاميذه أكبر الأثر في المكانه التي احتلها في علم الاجتماع حتى يومنا هذا.