بناء المجتمع ومشكلات النمو الاجتماعي عند جورج زيمل:
تتطابق فكرة الصورة عند جورج زيمل مع فكرة البناء، فهو قد ناقش مثلما فعل الوظيفيون مشاكل السيادة والتبعية كظواهر أساسية، وميز بين ثلاثة أنماط رئيسية من السيادة والسلطة وهي، السيادة عن طريق شخص واحد، والسيادة عن طريق جماعة من عدة أشخاص، والتبعية لمبدأ موضوعي لا شخصي.
وترجع أهمية أفكاره هنا إلى تحليله الدقيق للمواقف النوعية التي تنبع من كل نمط من هذه الأنماط الرئيسية، ويتبع زيمل الأشكال التطورية في الأسرة والدولة، وفي الشكل الاقتصادي أيضاً، فيحدث نفس التطور في العلاقة بين صاحب العمل والعمال إلى الحد الذي يصبح فيه الطرفان تابعين لمبدأ التعاقد الموضوعي، ويحدث هذا الأمر بصفة خاصة إذا كالتعاقد يعتمد على اتفاق جماعي بين هيئة أصحاب الأعمال والنقابة العمالية.
وقد كان زيمل واعياً بالمزيا التي تنشأ عن تبعية الأفراد للعناصر الشخصية في السلطة، ولكنه كان يفكر بشكل عام في جعل علاقات السلطة علاقات لاشخصية ﻷن ذلك يجعل التبعية أكثر احتمالاً وإهانة وقهراً، قد أفاض كثيراً في مسائل السلطة والتبعية والديمقراطية، والمعايير الواجب توافراها فيمن يتولى السلطة، فيرى أن الوظائف العليا في الدولة العصرية تتطلب مؤهلات شخصية غير عادية عند اختبار الشخص، ولا شك أن ندرة الأشخاص المؤهلين تأهيلاً عالياً تخلق صعوبات جديدة، ولكن يخفف هذا الأمر وهذه الصعوبة أن الأفراد الذين يختارون لهذه المناصب، قد يتوافقون مع المهام الجديدة والضخمة من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه قد يتم التعجيل الموضوعي للوظيفة ذاتها، هذا الأمر الذي لا يقوم على مؤهلات شخصية.
وقد أثار زيمل بعض التساؤلات في هذا الإطار مثل ما الذي يؤدي إلى تكامل الجماعات أو تفككها، وما الذي يجعلها تستمر خلال فترة طويلة من الزمن، ولقد مثلت هذه الأفكار جوهر الفكرة الرئيسية عن المجتمع، فمناقشة عن احتفاظ الجماعات بذاتها قد تعتبر معياراً ﻹسهاماته في نظرية علم الاجتماع، فهو يتحدث عن استمرار الهوية الخاصة بالجماعة رغم التغير الذي يحدث في تكوينها أو تكوين أعضائها.
فلا شك أن استمرارها بالجماعة يتأثر أساساً باستمرار الموقع المحلي، أو الاقليم الذي توجد به، ومدى ترابط العواطف والمضامين الفكرية من الجماعات وتأثيرها بأرض الآباء أو الأجداد، وهنا يقول على الرغم من تشابه العلاقات إلا أن صفاتها السوسيولوجية تختلف تبعاً اختلاف الفترة الزمنية التي تستمر فيها هذه العلاقات.
كذلك يرى أن الشرط الثاني لاستمرار الجماعة هو الاتصال الفسيولوجي بين الأجيال فله أهمية عظمى من أجل استمرار الجماعات الكبرى في الوجود فإحلال جيل محل جيل أمر لا يحدث في الحال ولكنه يحدث خطوة خطوة أو بالتدريج، كما أن عضوية الجماعة تساعد على المحافظة على الثقافة واستمرارها، وانتقالها، وهنا يعارض زيمل اعتماد الجماعة في وجودها على حياة فرد واحد، أو حاكم، أو قائد، وهو يحذر من هذه الحالة من أن وضع الحاكم يجب أن يكون موضوعياً، بمعنى أنه ليس سوى تشخيص لروح غير شخصية أو فوق شخصية أو لمبدأ مرتبط بالوضعية.
والتنظيم من وجهة نظر جورج زيمل هو أهم شرط لاستمرار أي جماعة، فكل الهيئات تنشأ أساساً من التفاعل المباشر بين الأعضاء، ومن أدوارهم كأعضاء في جماعة عن طريق التنظيم والوظائف التي تؤثر في وحدة الجماعة، والجماعة المنظمة أقوى من الجماعة غير المنظمة، من حيث مقاومة الأخطار الداخلية والخارجية.
وهكذا نرى كيف أن جورج زيمل قد أحدث تأثيراً ملحوظاً في علم الاجتماع ظل حتى الوقت الحاضر، فقد تأثر به كثير من علماء الاجتماع مثل روس، سمول، زنانيكي وبيكر وغيرهم.
ومع ذلك فإن هناك اعتراضات كثيرة وانتقادات أثيرت حول تأكيده على أن علم الاجتماع يدرس الصور الاجتماعية، ويرون أن دراسة العلاقات الاجتماعية دراسة مجردة وردها لعناصرها الأولية يخرجها عن طبيعتها ويجردها من معانيها الاجتماعية، فتبقى غير ذات دلالة مادية أو شيئية.
كذلك يرى النقاد أن تجريد العلاقات الاجتماعية وإرجاعها إلى عناصر أولية مجردة يقطع صلتها ويمزق وحدتها؛ ﻷن هذه العلاقات متداخلة ومتشابكة وسريعة التغير، ودائمة التفاعل، ومن الملاحظ أن كل تغير يصيب ناحية من نواحيها لا بدّ أن يتردد صداها في باقي العلاقات، فلا يمكن دراسة العلاقات منعزلة أو مجردة؛ ﻷن مثل هذه الدراسة تصبح غير ذات جدوى، ومن ثم يجب دراسة المجتمع ككل، ويجب دراسة العلاقات دراسة موضوعية كما هي موجودة في مختلف أوجه النشاط الاجتماعي.