بناء مدينة بغداد في العهد العباسي

اقرأ في هذا المقال


بناء مدينة بغداد في العهد العباسي:

كان من بين أفضل الإنجازات التي قام بها الخليفة أبو جعفر المنصور وتركت معلم في حضارة المستقبل لدولة الخلافة العباسية؛ إنشاء مدينة بغداد. والواقع أن تاريخ هذه المدينة، باعتبارها أساس من الأسس الإسلامية، يسير جنباً إلى جنب مع قيام دولة الخلافة العباسية وسقوطها. وقد ظل العباسيون، قبل ذلك؛ ثلاثة عشر عاماً منذ وصولهم إلى الحكم، دون عاصمة لملكهم حتى بنوا بغداد.

لقد استشعر المنصور المواجهات التي أحاطت بدولته الناشئة والتي تهتم إلى تقويض حكم الأسرة العباسية، لذا عمِد إلى البحث عن مكان يكون ملائماً لعاصمة جديدة تكون تعبيراً عن سيادة أسرته، فاختار موضِعاً عند التقاء نهر الصراة بنهر دجلة حيث توجد بغداد البوابة التاريخية التي تؤدي إلى مدن الشرق. هذا وكانت لدى المنصور من الدوافع السياسية والعسكرية والاقتصادية والمناخية ما جعله يقدم على بنائها.

فمن حيث الدوافع السياسية، فقد تعذر على العباسيين اتخاذ دمشق عاصمة لهم، نظراً لما تكنه من إخلاص لبني أمية. فقد كانت هذه المدينة عربية في طابعها وبيئتها وبعيدة عن بلاد فارس مصدر قوة العباسيينء فكانت لهم مصلحة خاصة في نقل حاضرتهم ناحية الشرق، كذلك لم يستقر العباسيون في الكوفة أو البصرة وهما المدينتان الكبيرتان اللتان كانتا موجودتين منذ الفتح الإسلامي للعراق.

إنّ هذا لم يأتِ عفوياً فقد كان أهل الكوفة ميالين إلى الثورات، أما البصرة فكانت لا
تصلح حاضرة للدولة بفعل موقعها القاصي في الجنوب، أما بغداد فكانت مؤسسة جديدة خالصة للعباسيين وتقع على مقربة من بلاد فارس وجاء بناؤها متوافقاً مع رغبة العباسيين في الاحتفاظ بالسلطة والتخلص من الطالبيين والانتقال إلى مرحلة الحكم العباسي الصرف واعتماد سياسة تهدف إلى إقامة تحالفات جديدة في مجتمع فئات عنصرية قومية ذات ثقافات مختلفة.

في وقت كان فيه المجتمع الإسلامي يمر في مرحلة التحول من التنظيم القبلي إلى التنظيم السكني باتجاه قيام مجتمع متماسك تتوفر فيه شروط الاستقرار السياسي والاجتماعي، أما من حيث الدوافع العسكرية فقد كان مركز دمشق النائي نحو الغرب لا يُلائم دولة تمتد أراضيها من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر السند. ولم يكن من الجائز أن يقيم العباسيون عاصمة لدولتهم وراء جبال فارس، إذ إنها ستكون بعيدة عن سائر الأمصار.

يضاف إلى ذلك أن إقليم العراق كان حلقة الاتصال بين الشرق والغرب، فأصبح بذلك واسطة العقد بين العنصرين الرئيسيين اللذين تألفت منهما الجماعة الإسلامية. ويمتاز موقع بغداد بحصانته من الناحية العسكرية إذ لا يمكن الوصول إليه إلا على قنطرة أو جسر، فإذا قُطعت الجسور وَخُرّبت القناطر لا يصل إليه العدو. وشكّل نهرا دجلة والفرات سوراً وخندقاً طبيعيين، كما يمتاز هذا الموقع ببُعده عن مناطق الحدود البيزنطية مما يجعله آمناً وبعيداً عن غارات البيزنطيين.

هذا وقد تطورت الوظيفة العسكرية للمدن الإسلامية من حيث كونها معسكراً تنطلق منه الحملات العسكرية للتوسع خاصة وأن المسلمين أقاموا، في بداية الفتوحات في معسكرات خارج المدن إلى معسكر للجند بعد تمصيره بحيث يكون الدفاع عنه أسهل من الدفاع عن المعسكر المكشوف. وتبدو المظاهر العسكرية جلية في أسلوب بناء بغداد وطريقة تحصينها.

فقد تشكلت بسورين وخنادق يحيط بها خندق رئيسي خارجي عرضه ستة أمتار تجري فيه المياه بهدف إحاطة المدينة بالمياه من كافة جوانبها حتى تكون جزيرة. أبواب المدينة الأربعة تنحرف عن الأبواب الخارجية. وبهذا الطراز الهندسي اكتسبت المدينة قدرة دفاعية. فحين يحاول الأعداء الدخول إليها يضطرون إلى الانحراف نحو اليسار للدخول من مدخل ثانٍ مما يجعل جوانبهم اليمنى مكشوفة وعرضة للسهام الموجهة إليهم.

بالإضافة إلى ذلك؛ أن إمكانات الوظيفة العسكرية تتأثر بكبر حجم المدينة ويقتضي بالتالي إقامة توازن بين مساحة المدينة وعدد المدافعين عنها وهذا يُفسر بناء بغداد ذات دائري متميز الشكل إذ تقل مساحة هذا الشكل عن مساح الشكل المربع في الأرض الواحدة، كما يجعل وجود مركز في المدينة على مسافات متساوية من أجزاء الدائرة وكان ذلك تعبيراً عن حرص المنصور على المساواة بين موظفيه؛ كما يعّرض كل أجزائها للشمس والهواء.

ومن حيث الدوافع الاقتصادية، فإن العباسيين لم يستقروا في مكة أو في المدينة، لأن الحجاز كان قطراً فقيراً لا يتناسب مع مكانة الدولة الإسلامية المترامية الأطراف والآخذة في التوسع والازدهار. ويمتاز موقع بغداد في وادي الرافدين على الضفة الغربية لنهر دجلة في أعلى المكان الذي يلتقي فيه هذا النهر بنهر الصراة، بأنه صلة الوصل بين بلاد الشام وبلاد فارس.

كما يتميز بأهميته السياسية والاقتصادية والاجتماعية كمركز تجاري لوقوعه على الطرق والممرات المائية والبرية والبحرية المتصلة ببقية أنحاء الدولة حيث ترد إليه المؤن من الشام والجزيرة ومصر والهند والسند والبصرة وواسط وأرمينيا وأذربيجان، عن طريق دجلة والفرات وفروعِهما وتتوافر فيه سبل المعيشة وطيب الهواء وجودة الغذاء، كما كانت المنطقة مُزدهرة زراعياً ومرتبطة بأقنية للري منظمة تنظيماً دقيقاً.

ومن حيث الدوافع المناخية، فقد بعث المنصور رواداً يختارون له مكاناً مناسياً يبني فيه حاضرته؛ فوقع اختيارهم على مكان قريب من بارما جنوبي الموصل. فخرج إليه في جماعة من رجاله وبات فيه ليلته. ولما أصبح سأل رجاله عن رأيهم فيه فذكروا له طيب هوائه وجودة غذائه. لكن الخليفة لاحظ أنه يفتقر إلى مرفق للرعية، وذكر لهم موضِعاً آخر كان قد مرّ فيه وهو في طريقه إلى هذا المكان؛ فرجع مع رجاله وأقاموا فيه يوماً وليلة وكان الفصل صيفاً فأعجبه هواؤه ووجد فيه المكان الذي يفي بأغراضه.

وأحب المنصور أن يقف على آراء أهل تلك الناحية، فدعاهم وسألهم عنه، وكيف هو في الحر والبرد والأمطار وغيرها، فأخبره كل واحد بما عنده من العلم ‏ كما سأل أحد الدهاقين وكان صاحب مزرعة فيه فحسن له النزول فيه لوقوعه بين أربعة نواحٍ وورود المؤن إليه من الأقاليم المجاورة، كما علم المنصور من رهبان الأديرة الموجودة فيه أن الموقع معتدل الحرارة بشكل عام.

ويتميز موقع بغداد بمميزات مناخية منها قلة الرطوبة رغم الجفاف والحرارة المرتفعة، وهو ما يجعل مناخها أفضل من مناخ المدن الساحلية في المنطقة حيث درجة الحرارة معتدلة إلا أنها مشبعة بالرطوبة. كان في موضع بغداد قبل الإسلام، قصر ساساني وجسر من البواخر على دجلة وقرى نصرانية صغيرة متناثرة على الضفة الغربية للنهر حولها أديرة للنصارى النسطوريين والراجح أنها كانت هنالك محلة تُقام فيها أسواق موسمية يجتمع فيها التجار وقد وجدت نفوش أشورية تفيد ذلك كما وجدت قطع من الآجر نقش عليها اسم بختنصر الثاني.

وفيما مضى قال المصنفون، أن المنصور لم يُنشأ مدينته في منطقة خالية من السكان، بل إن بغداد قامت فى منطقة عامرة بالقرى وذكروا بياناً بأسماء قرى نصرانية أصلها ساساني أخذت تندمج تدريجياً في الأماكن التي شملتها العاصمة العباسية وكانت بغداد أهم هذه القرى. والراجح أنها كانت تشمل المدينة المدورة التي بناها المنصور، وأضحت فيما بعد نواة الحاضرة العباسية الجديدة بل إن بغداد أخذت اسمها الشائع منها.

إن كلمة بغداد يُشتق على الأرجح، من صيغة فارسية مركبة تتكون من كلمتين هما باغ وداد وتعني عطية الله. وذكر المؤرخون والجغرافيون العرب عدة اشتقاقات لهذا الاسم ولقبها المنصور (مدينة السلام) تيمُناً بجنة الخلد أو لأن وادي دجلة كان يقال له وادي السلام وكان هذا هو الاسم الرسمي الذي يُذكر في الوثائق وعلى المسكوكات والأوزان.

شرع المنصور فى بناء عاصمته فى عام (145 هجري)/(762 ميلادي) واستخدم ألوفاً
كثيرة من العمال بالإضافة إلى الاختصاصيين من صُناعيين ونجارين وحدادين وحفارين استقدمهم من الأمصار وأشرف على البناء عدد من المهندسين الذين عملوا في بناء المدينة وقد استغرق بناؤها أربعة أعوام تقريباً انتهى في عام (149‏ هجري)/(766 ميلادي).

ويُعتبر المخطط الذي نفّذه المنصور مُبتكراً، فقد جعل المدينة مستديرة تحيط بها أسوار مزدوجة تؤلف حلقتين متتابعتين، وهذا اتجاه جديد في فن بناء المدن الإسلامية ويبدو أنه قد تأثر ببناء بعض المدن الفارسية القديمة مثل همذان.

بٌنيت مدينة بغداد على هيكل حصن كبير، وتألفت من ثلاثة عناصر معمارية هي: التحصينات الأسوار الخارجية، ثم المنطقة السكنية الداخلية. وضمّ وسط المدينة قصر الخليفة والجامع وقصور أولاده ودواوين الحكومة. ولم يكن يسمح لأحد بركوب الخيل أو غيرها من الدواب داخل المدينة الداخلية إلا للخليفة؛ وإن من يريد القصر عليه الترجل عند مداخل المدينة الداخلية ويسير على الأقدام باستثناء المهدي وداوود بن علي، عم المنصور الذي سُمح له بأن يُحمل في محفّة نظراً لمرضه.

ولما انتهى المنصور من انشاء بغداد فصل أهل رعيته وأعيان دولته فصائل من الأرض بجوار الأبواب خارج مدينته ومنح جنوده الأرباض ليبنوا عليها بيوتهم وذلك رغبة في تخفيف الضغط عن المدينة من جهة ومكافأة لهم على ما قدموه من الخدمات الجليلة من جهة أخرى. وسُرعان ما عمرت القطائع وازدحمت بالسكان وأضحت كل قطيعة تعرف باسم الرجل أو الطائفة التي تسكنها.

ويشكل المعلم الفارسي في تخطيط المدينة، إذ فُصل الخليفة عن الرعية وجعل له مقامٌ سامٍ يصعب الوصول إليه؛ كما أن ضخامة القصر والإيوان تظهر روعة الملك؛ ثم إن فكرة الاستدارة وحصر بيوت السكان فى أحياء منفصلة؛ يمكن غلقها ليلاً وحراستها بصورة دقيقة؛ يشير إلى السلطة المطلقة المتأثرة بالفرس والتي تتعارض مع سماحة الإسلام وماعٌرف عن الأمويين.

وبنى المنصور في عام (151‏ هجري)/(768 ميلادي). مدينة الرصافة أو بغداد الشرقية
لابنه المهدي على الجانب الشرقي من دجلة مقابل مدينة بغداد الغربية وقد عُرفت باسم (عسكر المهدي). وتعود الأسباب الاستراتيجية لتبرز من جديد في بنائها حيث وضع المهدي جنده فيها ليكون من في خارج مدينة المنصور عوناً في قمع الاضطرابات التي قد تنشب داخلها. ويبدو أن الخليفة أدرك أنه لن يكون آمناً كل الأمن على نفسه بإقامته في بغداد.

وجهزت الرصافة بسور وميدان وبستان وأجري عليها الماء وربط بين المدينتين بثلاثة جسور على نهر دجلة ومنح القواد فيها القطائع. وسرعان ما عمرت الرصافة حتى قاربت بغداد في الاتساع، وانتهى بناء الرصافة في عام (159 هجري)/(776 ميلادي) في عهد الخليفة المهدي.


شارك المقالة: