تراكيب الثقافة الجزئية والعامة:
هناك عدداً من المسببات الثقافية، فعندما نتحدث عن عالم الأشخاص وعن عالم الأفكار وعن عالم الأشياء وعن الأجزاء والظواهر الطبيعية، فإننا قد نبين أن القيمة الثقافية لهذه العوامل المتنوعة تخضع دائماً لصلتنا الشخصية بها.
فتفاحة نيوتن لم تتحول فجأةً إلى نظرية في الجاذبية الأرضية، ونافورات الماء في قصر الإست لم تكن لتلهم ليتز التي تعد من أروع وأجمل مقطوعاته الموسيقية، لو لم تكن له بهذه العناصر صلة شخصية استثنائية بالثقافة لما وصلت إلى هذه الميزة.
وبالاعتماد على ذلك لكي نستحدث تركيب الأجزاء الثقافية يتوجب أولاً أن يتحقق شرط جوهري ومهم جداً، هو أن نخلق وأن نوثق الصلة الضرورية بين الفرد وبين العوامل الثقافية القائمة على أمور التحصيل.
ولعالم الأشخاص في هذا المجال حق التقدم والرجوع، ذلك ليس من أجل امتياز شخص الإنسان فقط، بل لأنه يمثل الرصيد الثقافي الذي يزود الشخص منذ ولادته، بالمقاييس الذاتية التي تحدد سلوكه، وتؤكد انتسابه إلى ثقافة معينة.
كما يعتبر إذن الصلة بين الأشخاص هو الشرط الأساسي والرئيسي لتحقيق وإنجاز مشروع ثقافة معين.
فأساس كل ثقافة هو بشكل مهم تركيب وتآلف لعالم الأفراد، وهو تأليف يحدث طبقاً لمنهج تربوي يأخذ صورة فلسفية أخلاقية، واعتماداً فالأخلاق أو الفلسفة الأخلاقية هي أولى المقومات في الخطة التربوية لأية ثقافة.
هذه الفكرة التي اتخذت من جوانب الاهتمام الثقافي كانت بدايتها لرجل دولة، وهذا الرجل تحدث في مؤتمر ما عن مشكلة الثقافة في كافة جوانبها الإنسانية، وقد لاحظ أنه قد تكون عند الأفراد حاجة داخلية إلى أن الأفراد يعملوا بما لديهم من جهد ما، كما أن المجتمع لا يمكن أن يعفي نفسه من مهمة تحديد أصول هذا العمل.
تلك المشكلة هي التي تعتبر مشكلة الأفراد والتي تُواجه منذ الزمن الماضي في كافة المجتمعات الدولية، دون أن يقصدوا إلى التعبير عنها بهذه الصورة، بل دون أن يرمزوا إلى العنصر الثقافي الذي يعد من مكوناتها.
ومن المفروض علينا أن نلاحظ أن الأفراد يواجهون مشاكل الثقافة على أنها ضرورة ملحة لكل مجتمع يريد أن ينظم نفسه، ومهما اختلفوا بسبب تنوع ثقافتهم لا بد أن يجتمعوا تحت سقف ثقافة معينة.
وهنا نلاحظ بطريقة أو بأخرى سواء كانت هذه الطريقة مباشرة أو غير مباشرة، أن عالم الأفراد لا يمكن أن يكون ذا نشاط اجتماعي فعَّال، إلا إذا نظم وتحول إلى تركيب ثقافي مستقل.
والفرد المنعزل عن الأشخاص إذا ما تم إعطاءه هذه الكلمة التي معناها المنتسب للثقافة لا يمكن أن يواجه الثقافة، ولا أن يرسل إشعاعها.
فإذا ما نظرنا إلى المحتوى الاجتماعي، نجد أن المعلومات والأشياء لا يمكن أن تنقلب إلى أجزاء ثقافية إلا إذا نشأة أجزاؤها التي نتجت تركيباً، فليس للشيء المنعزل أو الفكرة المنعزلة معنى أبداً.
وفي الجانب الطبيعي أيضاً لا يمكن أن تنشأ الألوان والأصوات والمعلومات والأضواء والظل ويمكن أن تعكس صورتها ذاتيتنا إلا إذا جاءت بشكل مركب، فأصبحت مجموعة من الألوان وغيرها من الأصوات وطاقات معينة جميعها ضمن نطاقات ثقافية معينة.
وكما أنها مجموعة من الحركات وحزمة من الأضواء والظلال، تلك هي التراكيب الجزئية التي تؤخذ مباشرة من الطبيعة، ثم يأتي بعد ذلك دور ذاتيتنا، حين تحولها إلى تركيب أكثر تعقيدى كالرسم والموسيقى.
ومن هذه التركيبات الجزئية ينتج تركيب عام هو الثقافة، ولكن كيف يكون يظهر لنا هذا المفهوم بصورة منهجية التي تقوم بتظيم كل هذه التراكيب الجزئية المتفاوتة في تعقيدها في تركيب عام.
هنا نواجه مشكلة الثقافة، ليس بوصفها دراسة لحقيقة اجتماعية معينة، بل لأنها تعتبر منهجاً للتحقيق، وبمعنى أوضح وأدق بوصفها منهجاً تربوياً، ولكن الخطوة التي تم القيام بها تشير لنا إلى الطريق الذي يجب أن نتبعه.
فإذا ما عرفنا عن التركيب الذي يتكون في عالم الأفراد كما ينقلب عليه القيمة الثقافية التي يستحقها، وإذا ما وضعنا هذا التركيب بحكم طبيعته في إطار تربوي قائم على فلسفة أخلاقية لا يتثبت بشكل تام.
فإننا نكون في الحقيقة قد حددنا ضمناً منهجاً، ويبقى علينا أن نقوم باتباعه والقيام بتنظيم مختلف الأجزاء الثقافية التي سبق أن تم تحليلها في إطار تربوي مناسب يتفق مع طبيعتها.
وفي الحقيقة أن هذه العناصر التي تحللت في ذاتتنا، وشاركت في تكوين حياتنا الفردية، أسهمت في بناء حياة المجتمع باعتبارها مؤثرات في سلوكنا، وعناصر في أسلوب حياة المجتمع الذي نعيش فيه، هذه العناصر تنتمي إلى طوائف معينة.
فإذا ما قمنا بتحديد واحدة من هذه الطوائف التي لديها طبقاً لواحدة أو لأكثر من الأجزاء التي صنفناها، فربما أصبحت لدينا القدرة على عمل ما يتطلبه ذلك الطيف بذلك أن نحدد فصلاً من فصول الثقافة.
ومن أجل هذا كانت خطوتنا الأولى والأهم أن نقوم بتجزئة جميع العناصر الثقافية، التي ترجع إلى عالم الأفراد، في مصطلح خاص به وقد أطلقنا عليه اسم الفلسفة الأخلاقية، وذلك بسبب ما اشتمل عليه من عناصر، فالأخلاق هي التركيب التربوي لكل هذه العناصر، ولذلك كانت فصلاً جوهرياً من فصول الثقافة، نتصوره لا على أنه تاريخ بل على أنه مشروع تاريخ.
فعنصر الجمال يعد ذلك يعتبر تركيباً لطائفة جديدة من العناصر الثقافية، فإذا حدد العنصر الأخلاقي شكل السلوك حدد العنصر الجمالي لأسلوب الحياة الثقافية في كافة طبقات المجتمع.
لكن طريقة الحياة لا يقوم بتحديد هذه الأجزاء الثقافية فقط، بل إن عناصر الألوان والأصوات والأشكال وغيرها، بل أيضاً بالعمل بالإضافة إلى ذلك الجانب جانباً آخر، وكذلك يرجع إلى العناصر الثقافية المتحركة كالحركة والنشاط، تلك التي تحدد إلى درجة ومدى ما يتناسب مع فاعلية المجتمع.
فمن المهم إذن أن يتم تكوين لهذا المحتوى تركيباً تربوياً آخر يطلق عليه الافراد المنطق العملي وأخيراً فإن نمط حياة المجتمع ونشاطاته يقومان في جانبهما الأكبر على عالم الأشياء، الذي هو نتيجة عوامل فنية صناعية مختلفة، فهذا أيضاً جانب الأشياء الذي ينبغي أن نصنفه عنصراً ثقافياً في إطار تربوي مناسب.