تعجّ الكثير من المناطق التونسية بالخرافات والمعتقدات الغريبة، وقد بُني البعض منها على معتقدات وخرافات اختلقها الخيال الشعبيّ فيما مضى من أزمنة، والسبب في إيمانهم بهذه الموروثات هو رغبتهم بتفسير الأمور الغيبية، والتي كانوا غير قادرين على فهمها وفك رموزها ومعرفة أسرارها، أو لتفسير أمور وأحداث لم يجدوا لها تفسيرًا منطقيًا، وهو ما جعل البعض يهرع لتفسير تلك الظواهر على مدى عصور عبر الخرافات المختلفة، والحكايات العجيبة التي كانوا يفسرونها بالأشياء الخارقة.
ترتبط الخرافة على الأغلب لدينا بقصص الجدّات، وحكايا الأطفال التي كانت تُروى لهم ليناموا، غير أنّ بعض تلك المعتقدات والحكايات الخرافية التي كانت ترويها الجدات ظلت وكأنّها حقيقة راسخة في خيال الكثير من أولئك الذين يؤمنون بها إلى يومنا هذا، بل وإن بعضهم يحتفظون ببقايا تلك الخرافات والمعتقدات في داخلهم، ولربّما يبدو الأمر ممتعًا الاستماع إلى الجدات وهن يروين بعضًا من تلك الخرافات التي توارثنها بدورهنّ عن جداتهن، وترسخت فيهنّ إلى أن صارت لديهن أقرب إلى الحقائق منها إلى الخرافة.
خرافة طائر الموت النعوشة أو أم الذراري:
معظم الناس يعرفون أن تلك الخرافات والمعتقدات القديمة والتي كانت تُروى للأطفال، وفي العادة يكون الأبطال فيها شخوصًا مخيفةً من الخيال، تُرسم بصور بشعة قبيحة؛ لتضفي نكهة من الخوف على الخرافة؛ ليخوف الآباء أطفالهم، مثل: “الغول” و”حمارة القايلة” والجنّ وغيرها من الخرافات، ووسط تلك الخرافات والموروثات الشعبية، لا يزال الكثير من الأشخاص يعتقدون بصحة بعض من تلك الخرافات، على سبيل المثال، خرافة طائر الموت أو كما يُطلق عليه “النعوشة” في بعض الأماكن أو “أم الصبيان” في الشمال الغربي أو “أم الذراري” في جنوب تونس، وهذا الطائر كما قيل عنه: أنّه يتربّص بالأطفال حديثي الولادة.
القصص الغريبة والخارجة عن المألوف عن طائر النعوشة، والتي من الممكن أن يصدقها بعض الأشخاص وينكرها آخرون، والخرافة التي بين أيدينا ترتبط بنوع معين من طيور البوم، وقد صارت معتقدًا ثابتًا وبشكل مطلق، والخرافة تلقي الاتهام من بعض النساء على طائر “النعوشة”؛ إذ يقوم بالتسلل عندغروب الشمس إلى حيث ينام الأطفال الرضع لامتصاص ألسنتهم، وبعدها يحدث لهم حالة من الاختناق حتى الموت، أو يقوم الطائر بامتصاص أدمغتهم، أو بالوقوف على صدورهم حتّى الاختناق.
إن شخصية هذا الطائر ليست من نسج الخيال، إنّما هو طائر موجود في الواقع، حيكت حوله الخرافات والحكايات الخيالية، وهو متهم بقتل الأطفال، وفق الموروث والمعتقد الشعبي على مر العصور، وعلى العكس مثلًا شخصية الغول التي تعتبر شخصية خيالية بكل تفاصيلها، ولا تمت للواقع بصلة.
تروي الجدّات وكبار السنّ أن “النعوشة” طائر من سلالة البوم، غير أنه يكبره حجمًا، وهو منتشر في العديد من المدن والقرى التونسية، يتميز بصوت موحش مرعب، تخاف منه النساء كثيرًا؛ وذلك لأنّه يقوم بقتل الأطفال الذين لم يبلغوا سنّ البلوغ وليس الرضع فقط، ويتبع الذين يؤمنون ويصدقون هذه الخرافة تقاليد غريبة، وذلك للوقاية من شرّ هذا الطائر يجب على كل عائلة تعليق غربال على مدخل البيت أو على مدخل غرفة نوم الأطفال.
أما تعليق الغربال فيرتبط بقصة غريبة كغرابة الخرافة نفسها، إذ قيل أن إحدى النساء فيما مضى رُزقت بولد بعد أن طال انتظارها، وفي إحدى المرات طلبت من ولدها أن يحضر لها غربالًا من عند إحدى الجارات، غير أنه تأخر في العودة، فانهالت عليه ضربًا حتى مات، ولم تتقدم أيّ من نساء الحي لنجدته، ومن شدة حزنها على طفلها تحوّلت فجأة إلى طائر بوم، وصارت تتربص بأي طفل صغير خاصة عند غروب الشمس، ولهذا يسمع صوتها غالبًا خلال المغرب أو ليلاً، وتعليق الغربال إنما هو لإبعاد خطر البوم؛ إذ حين ترى البومة الغربال أو تسمع أحدًا يطلبه، تتذكر موت ابنها فترأف بأي طفل وتذهب في حال سبيلها؛ ولذلك لا يجب ترك الأطفال بمفردهم خاصة حديثي الولادة، وكما يجب ألّا يخلو بيت من غربال.
هي خرافة غريبة ومضحكة ، تختلف عن غيرها من الحكايات والخرافات المتوارثة؛ ذلك أنّ تلك الخرافات إنّما نُسجت فقط لإخافة الأطفال، وقد حيكت من عمق الخيال، إلا أن هذه الحكاية الخرافية المرعبة بطلها طائر من الواقع لا يختلف عن أي طائر آخر، وأما ذنبه فلأنّ شكله وصوته مخيفان؛ وبذلك صارت “النعوشة” أو “أم الذراري” قصّة يسمعها الجميع ويصدقها كُثُر ويتناقلون قصتها جيلًا بعد جيل.
إنّ هذا الطائر من سلالة البوم يُنظر إليه على أنّه طائر شؤم، وإليه تنسب المصائب مثل: خراب الديار وابتعاد الأحبة وحتى الموت أيضًا، لدرجة أنّ الناس كانوا ينهرون هذا الطائر ويحاولون إبعاده خاصة في الليل، لأنّ “النعوشة” تصطاد فرائسها عادة في الليل وهم من الأطفال الصغار وخاصة الذكور، ويُقال إنها تخاف ولا تقترب من المنازل التي يعلق بها الغربال الذي يذكرها بابنها، كما تشمّ رائحة الأطفال من خلال ملابسهم المعلقة على حبل الغسيل، والتي يجب نزعها من فوق الحبل قبل غروب الشمس، وفق ما ترويه الأمهات والجدّات.
بالتأكيد فإن كلّ ما نُسج حول هذه الخرافة” طائر الموت”، والتي اعتقدت وآمنت بها وصدقتها الجدات والأمهات الأكبر سنًا، ما هو إلا وسيلة فسر بها الأولون وفاة بعض الأطفال مبتعدين عن أيّ حقيقة علمية، وما زال كثير من النساء يؤمنّ بهذه الحكاية الخرافية، ولا يزال صوت هذا الطائر نذير شؤم يفرض على عدد كبير من النساء تعليق الغربال في البيت حتى وإن كنّ لسن بحاجة إليه.
هذه الخرافة ليس تواجدها حكرًا على تونس فحسب، فالباحث عن هذه الخرافة وأصولها، سيجد أنها معروفة في بعض الدول العربية الأخرى، وكما أنه سيجد أنّ الحكاية واحدة مع اختلاف في بعض التفاصيل، ففي ليبيا مثلًا يُطلق على هذا الطائر اسم “النعاقة”، إذن مع اختلاف الروايات والمسميات، يبقى هذا الطائر بطل حكايات الجدات الموروثة عبر العصور.