اقرأ في هذا المقال
دراسة الطب الإثني في الأنثروبولوجيا:
يعتبر الطب الإثني في الأنثروبولوجيا هو الدراسة المقارنة للثقافة حول أفكار العافية والمرض والشفاء، فبالنسبة لغالبية وجود البشر تم الاعتماد على الموارد البيئة الطبيعية وتقنيات الصحة والشفاء وثيقة الصلة بالمعتقدات الروحانية، فالعديد من هذه الممارسات بما في ذلك بعض الأعشاب والتقنيات العلاجية مثل الوخز بالإبر درست علمياً ووجدت فعاليتها، وأخرى لم يتم إثبات فعاليتها طبياً من قبل الأدلة العلمية الخارجية، لكنها تستمر وتحتضنها المجتمعات التي ترى أنها مفيدة، وعند التفكير في الأفكار الثقافية حول الصحة، فإن المكان المهم للبدء هو المسببات العرقية كالتفسيرات الثقافية حول الأسباب الكامنة وراء مشاكل الصحة.
ومن منظور الأنثروبولوجيا النهج السائد للتفكير في الصحة هو الطب الحيوي، ويعتقد أن الأمراض تكون نتيجة وكلاء محددين يمكن التعرف عليهم، وهذا يمكن أن يشمل مسببات الأمراض كفيروسات أو بكتيريا والعمليات الكيميائية الحيوية للجسم كحالات مثل السرطان، أو الاضطرابات الفسيولوجية مثل فشل الأعضاء، ويتم تعريف الصحة في الطب الحيوي كما يُمارس بالطب الحيوي الغربي مثل عدم وجود مرض أو خلل وظيفي، وهو منظور يستبعد بشكل ملحوظ النظر في العوامل الاجتماعية أو الرفاه الروحي.
وفي السياقات غير الغربية غالبًا ما يُنظر إلى التفسيرات الطبية الحيوية على أنها غير مرضية، ففي تحليل عالم الأنثروبولوجيا الطبية جورج فوستر للأفكار حول الصحة والمرض في الثقافات غير الغربية عام 1976 لخص إلى أن هذه الأفكار يمكن تصنيفها إلى نوعين رئيسيين من المسببات العرقية هما الشخصية والطبيعية.
دراسة المسببات العرقية الشخصية والطبيعية في الأنثروبولوجيا:
يرى علماء الأنثروبولوجيا إلى أن المسببات العرقية الشخصية تنظر إلى المرض على إنه نتيجة للتدخل النشط الهادف للعميل، وقد يكون إنسانًا كالساحر، أو غير بشري كشبح أو سلف أو روح شريرة، أو خارق للطبيعة كإله أو كائن آخر قوي جدًا، ويُنظر إلى المرض في هذا النوع من المسببات العرقية نتيجة للعدوان أو العقوبة الموجهة عمداً نحو الفرد، وليس هناك أي حادث أو فرصة عشوائية، والممارسون الذين يتم استشارتهم لتقديم العلاج مهتمون في اكتشاف المسؤول عن المرض سواء شبح أم سلف.
ولا أحد مهتم بشكل خاص في اكتشاف كيفية نشوء الحالة الطبية من حيث علم التشريح أو علم الأحياء المعني، وهذا هو لأن علاج المرض سيتطلب تحييد أو إرضاء شخص، أو كيان خارق للطبيعة، وتحديد السبب الجذري للمشكلة بشكل صحيح أمر ضروري لتحقيق العلاج، حيث يقدم شعب هيبان النوبة في جنوب السودان مثالًا مثيرًا للاهتمام على المسببات الشخصية، كما وصفهم علماء الأنثروبولوجيا في الأربعينيات من القرن الماضي، حيث كان لدى أعضاء هذا المجتمع اعتقاد قوي بأن المرض ومصائب أخرى كانت نتيجة السحر.
كما كانوا يعتقدون أن هناك سحر معين يظهر بشكل غامض في الأفراد يتسبب في وفاة أو مرض أي شخص يأكل حبوبهم أو انسكاب البيرة الخاصة بهم، وحتى النجاح الباهر والثروة بسرعة كبيرة، أمر مشكوك فيه، وينعكس هذا الكون المليء بالقوى الخبيثة في مجموعة محيرة من الطقوس، الثابتة والعرضية والتي تميز تقريبًا كل نشاط الحياة القبلية، ولأن المرض يُعتقد إنه ناتج عن الهجمات الروحية من الآخرين في المجتمع، الناس الذين يمرضون يبحثون عن حلول خارقة للطبيعة، وغالبًا ما يكون الشخص الذي يتم استشارته شامانًا أي شخصًا متخصص في الاتصال بعالم الأرواح.
وكذلك في المجتمعات الأخرى حيث يوجد الشامان يُعتقد أن الشامان يكون قادرًا على الدخول في حالة تشبه الغيبوبة من أجل العبور بين العوالم العادية والخارقة، وأثناء وجوده في هذه الحالة يمكن للشامان تحديد الشخص المسؤول عن التسبب في المرض وفي بعض الأحيان يمكن إقناع الأرواح بعلاج المرض نفسه، والشامان شائعون في جميع أنحاء العالم فهي أقدم مهنة، والشامان ممارسون دينيون وطبيون يلعبون أدوارًا اجتماعية مهمة في مجتمعاتهم كمعالجين يتمتعون بقدرة فائقة على التنقل في عالم الروح للحصول على إجابات.
بالإضافة إلى ذلك فإن غالبًا ما يكون لديهم معرفة شاملة بالبيئة المحلية وكيفية استخدام النباتات طبيًا، وهم كذلك يمكن أن يعالجوا الأمراض باستخدام أدوات طبيعية وخارقة، كما يرى علماء الأنثروبولوجيا إنه في علم الأمراض العرقي الطبيعي يُعتقد أن الأمراض ناتجة عن قوى طبيعية مثل البرد والحرارة والرياح والرطوبة، وقبل كل شيء اضطراب في توازن عناصر الجسم الأساسية، وإن الفكرة اليونانية القديمة القائلة بأن الصحة تنتج من التوازن بين الأخلاط الأربعة هي مثال على التفسير الطبيعي.
وتحقيق التوازن أو الانسجام بين هذه العناصر تعتبر قوة أساسية للصحة الجسدية والعاطفية، وعلى عكس التفسيرات الشخصية يهتم الممارسون الذين يعالجون المرض في المجتمعات ذات المسببات العرقية الطبيعية في فهم كيفية ظهور الحالة الطبية حتى يتمكنوا من اختيار العلاجات العلاجية التي يتم عرضها حسب الأنسب، ويمكن النظر إلى الصعوبات العاطفية على أنها سبب المرض في مسببات عرقية طبيعية أي تفسير عاطفي، وأحد الأمثلة على مشكلة طبية مرتبطة بالعاطفة هو مرض السوستو والمعترف به من قبل مجموعة (Mixe)، وهي مجموعة من السكان الأصليين تعيش في أواكساكا بالمكسيك، بالإضافة إلى آخرين في جميع أنحاء العالم.
وتشمل أعراض مرض السوستو صعوبة النوم ونقص الطاقة وفقدان الشهية وأحيانًا الغثيان والقيء والحمى، ويُعتقد أن الحالة ناتجة عن الخوف أو الصدمة وفي بعض الحالات على الأقل، يُعتقد أنها تبدأ بصدمة قوية لدرجة أنها تفصل الروح عن الجسم، ويتم علاج الحالة عادة بالعلاجات العشبية ومراسم الباريدا (الكنس) وتم تصميمه لإصلاح الضرر الناجم عن الصدمة نفسها، على الرغم من أن علماء الأنثروبولوجيا الذين يعملون ضمن المسببات العرقية الطبية الحيوية قد اقترحوا أن سوستو هو مرض نفسي، وفي سياقات ثقافية أخرى يمكن وصفه بالقلق أو الاكتئاب، وفي الواقع لا يتناسب مرض سوستو بسهولة مع أي فئة طبية بيولوجية واحدة.
وفي الممارسة العملية يقوم الناس بتقييم المشكلات الطبية باستخدام مجموعة متنوعة من التفسيرات وفي أي مجتمع معين قد تنطبق التفسيرات الشخصية أو الطبيعية أو حتى الطبية الحيوية في مواقف مختلفة، حيث إنه من المهم أيضًا أن يتم وضع في الاعتبار أن الخط الفاصل بين القلق وأنواع أخرى من تحديات الحياة يمكن أن يكون ضبابيًا، وقد يُنظر إلى المرض على إنه مجرد حالة أخرى من المحنة العامة مثل فشل المحصول أو خيبة الأمل في الحب.
على سبيل المثال الأزاندي في وسط إفريقيا يعتقدون أن السحر يكون مسؤولاً عن جميع المصائب تقريبًا، بما في ذلك المرض، وعلماء الأنثروبولوجيا الذين درسوا الأزاندي في شمال وسط إفريقيا في الثلاثينيات من القرن الماضي وصفوا هذا المنطق الشهير بأنه وصف للحالة التي انهار فيها مخزن الحبوب، وهو مبنى يستخدم لتخزين الحبوب، حيث انهار لحظة جلوس الناس تحته ليحتموا من حرارة الشمس، ويعرف الأزاندي أن سبب وقوع هاذا الحدث في نفس الوقت بالضبط وفي الزمان والمكان كان بسبب عمل السحر.
فلو لم يكن هناك سحر لكان الناس جالسين تحت مخزن الحبوب ولم يكن ليقع عليهم، أو لكان قد انهار لكن الناس لن تكون تحتمي تحته في ذلك الوقت، ووفقًا لهذا المنطق فإن مرض الجسد ناتج في النهاية عن نفس قوة الانهيار من مخزن الحبوب أي السحر، وفي هذه الحالة قد لا يركز العلاج المناسب على الجسم بحد ذاته، وغالبًا ما تكون الأفكار المتعلقة بالصحة لا تنفصل عن المعتقدات الدينية والافتراضات الثقافية العامة.