اقرأ في هذا المقال
دراسة الهوية من منظور أنثروبولوجي:
في عالم هجين أصبحت الهوية على نحو متناقض ذات شعبية ملحة وقلق لعلماء الأنثروبولوجيا، إذ إن التسارع في تداول الأشخاص والبضائع والرسائل له تأثير أذكى وقلق على نطاق واسع، حيث القلق بشأن الهوية يغذي المواقف المتضاربة اتجاه العالمية والاختلاط العرقي والهجرة والتوحيد والاستثمار الدولي والتنظيم فوق الوطني، كما إنه يحفز على الأقل جزئيًا الابتكارات في التقليد والاحتجاجات المناهضة للعولمة ومشاريع التجديد العرقي ومراجعات التاريخ، والأكثر خطورة من الكراهية المعادية للأجانب التي أشركت الكثير من هذا الكوكب في حروب مستعصية.
وفي الوقت نفسه ضاعف التواصل السريع احتمالات الهوية، حيث يبدو أن قائمة أكبر لخيارات الهوية توفر فرصًا أكبر لاكتشاف الذات وتأكيد الذات والتشكيل الذاتي، فالهويات المتكاثرة تحمل أيضاً أسس الحركات الاجتماعية الجديدة التي تدافع عن المجموعات النساء والرجال المثليين والسحاقيات والأعراق والمعاقين وآخرين لا حصر لهم ممن تم تجاهل مخاوفهم في السابق أو محجوبون، لكن انفجار بدائل الهوية له أيضًا مخاطرة؛ لأنها يمكن أن تكون مربكة ومنفصلة ومثيرة للانقسام.
فكلما انكمش العالم زاد تعقيد العثور على مكان، ومهما كان تقييم المرء لهذه الظواهر فإن أهميتها واضحة، ولا عجب أن الهوية جذبت اهتمامًا متزايدًا من الباحثين الاجتماعيين، حيث تحتل دراسة الهوية مكانة رئيسية في العمل الثقافي المعاصر في الأنثروبولوجيا، فاستجابة للاتجاهات التاريخية قام علماء الإثنوغرافيا في البداية بفحص المفاهيم المعترف بها حديثًا والبارزة والناشئة بشكل متزايد وذات الصلة بما في ذلك الجنس والعرق والقومية وما بعد الحداثة أو عبر الوطنية المتطابقات.
وبالطبع للتخصصات الفكرية اهتمامات مميزة أيضًا، فالإثنوغرافيات الحديثة للهوية ذات قيمة الجوهرية كما هي داخل مناقشات الأنثروبولوجيا، وعلى وجه الخصوص أصبحت الهوية موقعًا مكثفًا للخلافات النظرية حول طبيعة المعنى والمكانة، ولا تظهر مثل هذه الخلافات علامة القرار الوشيك والفحص الدقيق للهوية خاصة في لحظة انسيابية مثل اللحظة الحالية بل تزيد من شحذها.
فهل معاني كل الهويات ثابتة أم ديناميكية، رمزية أم نفسية، عامة أم شخصية؟ تدعو الدراسة المعاصرة للهوية إلى إعادة صياغة مثل هذه الأسئلة، وباختصار فإن الاستقصاءات الإثنوغرافية عالقة حتمًا في القضايا النظرية ومثمرة لها.
وتستكشف هذه الدراسة الخلافات النظرية والدراسات النموذجية والاتجاهات الجديدة في التحليل الأنثروبولوجي للهوية، وتحضر بشكل خاص إلى الخلافات حول عدم الاستقرار وانتشار الهويات، ويزعم بعض المفكرين أن العمل المستقبلي المهم سيتطلب من علماء الأنثروبولوجيا التفكير في نموذج الشخص الذي يقوم عليه كل المقاربات إلى المعنى وكل المحاولات للربط بين المجالات العامة والشخصية، وبالتالي، من باب أولى جميع حسابات الهوية.
الهوية والثقافة كمنتج استطرادي من وجهة نظر الأنثروبولوجيا:
بالنسبة لمعظم تاريخ تخصص الأنثروبولوجيا، تعامل علماء الأنثروبولوجيا مع الهوية على أنها غير إشكالية نسبيًا، أي أنهم نظروا إلى الهوية والثقافة على أنها منتج استطرادي ومترابطة ومتبادلة ودائمة نسبيًا وتقع في مساحة محدودة، لذلك الذين يعيشون في بالي لديهم الثقافة البالية، ومصارعة الديكة والأسماء والنفور من التفاعلات التراكمية، واليابانيون، الذين يعيشون في اليابان لديهم الثقافة اليابانية وطقوس المكانة والشرف والديون الأخلاقية.
وعلى الرغم من منتصف القرن بدأ بعض علماء الأنثروبولوجيا بالفعل في تقديم تحليلات غير تقليدية، مما يشير إلى أن الهويات يمكن أن تكون قابلة للتغير بشكل مدهش، حيث لم تكن الثقافة المشتركة هي الجانب الذي يميزهم بل هو النموذج المنطقي، وكانت هذه أيضًا فترة من التنظير المكثف حول ما بعد الحداثة والعولمة.
العولمة عند الفلاسفة والنقاد الاجتماعيين:
ووفقًا لعدد من الفلاسفة والنقاد الاجتماعيين فإن العولمة تطرح أعداد هائلة من المهاجرين العابرين للحدود في ظروف إرباك اجتماعي وثقافي مشوش جذريًا، وحتى أولئك الذين يبقون في المنزل يصطدمون حتماً بأجانب، أجانب الطرق والمنتجات الأجنبية والشركات الأجنبية ووسائل الإعلام الأجنبية، ونظرية ما بعد الحداثة تدعي أن الدوران السريع والمتواصل للناس والتمثيلات ينتج مجموعة جديدة من التأثيرات غير العادية بما في ذلك الهويات المشوشة غير الإقليمية والمعاني والثقافات الهجينة.
وأشارت الحجة للعديد من علماء الأنثروبولوجيا التفسيرية إلى أن ثقافتهم كانت نظرية عفا عليها الزمن، وأن الأنثروبولوجيا الرمزية التقليدية قد ضلت طريقها عن هذا العالم الذي يتسم بنسبية لا هوادة فيها ويتسم بالحركة والسيولة والعبور، وإن الانبهار النظري بالحركة الذي تم صياغته بلغة مبهجة عالية المستوى يشير إلى أن النظرة الشاملة للثقافة كنظام من الرموز انتقل من جيل إلى آخر داخل مجموعة محدودة مكانيًا، وكان متعفنًا من بقايا المعرفة القديمة.
فهل كان واضحاً بعد الآن، على سبيل المثال هل يمكن أن الثقافة اليابانية مشبعة بأفلام ماكدونالدز وهوليوود المبهرجة، وهل لا تزال تعتبر كيان متماسك قائم بذاته ودائم؟ وكقضبان السوشي وصالات الكاريوكي تكاثرت في سان فرانسيسكو وساو باولو، كيف يمكن للمرء أن يدعي بعد الآن أن الثقافة اليابانية اقتصرت على اليابان؟ إذ وجد علماء الأنثروبولوجيا الثقافية أنفسهم مترددين أمام مثل هذه الأسئلة، وغير متأكدين من كيفية التفكير في الثقافات والهويات في كوكب يتقلص بسرعة.
وجاء دور تضخيم عدم اليقين النظري المرتبط بالعولمة، ويتجلى بشكل متزايد في الثمانينيات في الأنماط الأدبية والتاريخية للتحليل الاجتماعي، وتحول دفعته بعض الكتابات النسويات ومؤرخات ما بعد البنيوية والنقاد الأنثروبولوجيين مثل كليفورد وماركوس الذين أكدوا جميعًا مثل فلاسفة ما بعد الحداثة على احتمالية الهويات والمعنى، حيث تتوافق تصورات ما بعد الحداثيين عن التغيير التاريخي مع النسويات وانتقال علماء ما بعد البنيويين إلى تقنيات تحليلية جديدة، وتشجيع نظرية الابتكار في الموقف التمثيلي.
فالخطابات الناشئة ليست ثابتة وأصبحت الثقافة بالنسبة للكثيرين الموضوع الرئيسي للتفسيرات الأنثروبولوجية، حيث إن استبدال الخطاب بالثقافة ليس مجرد تغيير في موضة المصطلحات، بل إنه يشير إلى التشكيك في الدلالات الأفلاطونية لمصطلح الثقافة، وعدم الرضا عن التفسيرات الثابتة لأنظمة الرموز وما يقابلها من الالتزام بمراعاة المعاني على أنها مصاغة بشكل مضاعف ومغروسة في القوة ومتقلبة بشكل استثنائي، وبالتالي يصبح الشغل الشاغل للأنثروبولوجيا المستمر هو إنتاج المعاني من خلال التصنيفات والروايات المتغيرة باستمرار.
والنتيجة الطبيعية المهمة لهذا الموقف الجديد هي أن الهوية تصنف نفسها تقليديًا كنقاط البداية التي لا جدال فيها للدراسات الإثنوغرافية للثقافة والمجتمع وهي وبالمثل غير مستقر ولذلك يجب التعامل معها على أنها عناصر للتحليل الخطابي بدلاً من علامات المجموعة البسيطة، وإذا أصبحت الهويات غير مستقرة والثقافات المتجولة والحدود قابلة للاختراق فإن أسس المنطق السابق للأنثروبولوجيا التمثيلية من ماذا وأين في متناول اليد.
وباختصار، الكيانات المفاهيمية سابقة التنظير والمجموعات المحدودة والوحدات الثقافية المرتبطة بها يتم التعامل معها الآن من قبل علماء الأنثروبولوجيا الخطابي كمنتجات تاريخية وهذه المنتجات قبل كل شيء هويات وتصبح البؤر الجديدة لدراساتهم الإثنوغرافية.