اقرأ في هذا المقال
طبيعة العصر العباسي الثاني:
يختلف العصر العباسي الثاني في كثير من مظاهره عن العصر العباسي الأول. فقد امتاز العصر الأول بقوة الخلافة، وتركيز السلطة في يد الخلفاء الذين اتصفوا بالبراعة السياسية، وقوة الشخصية. واستطاعوا أن يحافظوا على العلاقات الوثيقة مع الشعوب التي ساندتهم في فترة التحضير للثورة. كما أبدوا كفاءة نادرة في كبح جماح العناصر المتوثبة والمتطلعة إلى النفوذ والسلطان، باستثناء ما حصل في الأندلس وبعض الأقاليم في شمالي إفريقية. وتمكنوا من إقامة نوع من التوازن بين التيارات السياسية المختلفة التي ظهرت بعد قيام الدولة.
وتغيرت هذه الظواهر في العصر العباسي الثاني حين انتقلت الدولة من المركزية إلى اللامركزية في نظام الحكم. وقامت دول انفصالية مُستقلة استقلالاً تاماً أو جزئياً مع الاعتراف بسلطان الخلافة الروحي، ودخلت شعوب جديدة في المجتمع الإسلامي تمكنت من الوصول إلى الحكم، ووقع الخلفاء تحت نفوذهم، مما أدى إلى تحجيم دورهم السياسي الفاعل، ففقدوا الاحترام الذي كان يتمتع به أسلافهم خلفاء العصر العباسي الأول.
ويبدو أن مرد هذا التغيير، يكّمن فى الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي عاشتها دولة الخلافة العباسية في العصر العباسي الأول، وقد حملت معها بذور الانفصال. كانت رقعة الدولة مُتَّسعة اتساعاً كبيراً حتى تعذرت إدارتها من مركز الخلافة وذلك بفعل عدم مُلاءمة تطور وسائل النقل مع هذا الاتساع من جهة، ونتيجة لنمو الشعور العنصري من جهة أخرى.
تقسيم هارون الرشيد الدولة:
تجاه هذا الواقع، لجأت الدولة إلى اتباع سياسة مُضادة ترتكز على التجزئة. فقد قسّم هارون الرشيد الدولة بين ولديه الأمين والمأمون. القسم الأول ويتمثل في أمصار المغرب العربي، والقسم الثاني هو المشرق. وجرت العادة أن يعهد الخليفة بولاية العهد إلى اثنين يلي أحدهما الآخر. وكانت إدارة المغرب تعهد إلى ولي العهد الأول وإدارة المشرق إلى ولي العهد الثاني. وقد اتبع الخلفاء بعد هارون الرشيد سياسة التجزئة هذه.
نتائج تقسيم هارون الرشيد الدولة:
نتج عن هذه التجزئة ظاهرتان مُتعارضتان. ظاهرة تسعى إلى تركيز السلطة والإبقاء على الوحدة، وظاهرة تعمل على الانفصال الإقليمي مستغلة أوضاع الشعوب الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة، لتحقيق انفصالها. وانتهى الأمر إلى انتصار النزعة الانفصالية التي مهدت لقيام الدول الانفصالية.
يُضاف إلى ذلك، لقد حملت دولة الخلافة العباسية، أثناء قيامها، بذور هذا الانفصال، حين تطلعت الشعوب غير العربية للحصول على مبدأ المساواة التامة مع العرب وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، بعد أن حرمت منه في مراحل سابقة.
وعملت الخلافة العباسية على تنفيذ هذا المطلب، مما أدى إلى تقوية الروح الشعوبية لدى الشعوب غير العربية، ودفعها إلى إقامة دول انفصالية عنصرية، لكنها حافظت في الوقت نفسه على الولاء لمنصب الخلافة واعترفت بسلطان الخليفة الروحي. وعليه، فإن مطالبة هذه الشعوب بتطبيق مبدأ المساواة، كان يخفي وراءه هدفاً سياسياً.
وكان لأسلوب الحكم في الولايات النائية دور في تغليب نزعة الانفصال. فقد عمد خلفاء بنو العباس، خاصة في عهد تصاعد نفوذ الأتراك، إلى تعيين بعض قادتهم حُكاماً على هذه الأقاليم، وأهملوا في الوقت نفسه مراقبتهم ومحاسبتهم.
وبِحكم الأوضاع الفوضوية السائدة في الإدارة المركزية، عمد هؤلاء إلى تعيين نواب عنهم لإدارة الأقاليم بإسمهم فيما حافظوا على وجودهم في العاصمة، يشاركون في رسم السياسة العليا للدولة، ويشتركون في المؤامرات، وينعمون بحياة البلاط.
ومن الطبيعي، في هذا الوضع الشاذ، أن يسعى النواب إلى اقتناء المال لإرضاء الخلفاء والقادة وحتى أنفسهم. فعمدوا إلى زيادة الضرائب واشتطوا في جبايتها، حتى وقع الظلم على الناس، فراحوا يترقبون من يرفع عن كاهلهم هذا الظلم، ويصلح أوضاعهم الاقتصادية. حتى إذا وُجِد الرجل القوي في إحدى الولايات، استغل هذه الأوضاع السيئة ضارباً على وتر الحالة الاقتصادية والاجتماعية، فيلتف حوله الناس، ويعلن انفصاله.
كانت حركة الزَّنْج التي قامت في عام (255 هجري)/(869 ميلادي)، المرحلة الحاسمة في تاريخ دولة الخلافة العباسية، إذ أضحت القوى الانفصالية قوية جداً بحيث أدّت إلى تفككها. فقد انفصل شمالي إفريقية عن دولة الخلافة العباسية، منذ وقت طويل، وأثناء الحرب الطويلة مع الزنج، وبعدها بوقت قصير، انفصلت بلدان كثيرة أخرى عن جسم الخلافة، وأتاح الوضع الصعب الذي وجد فيه الخلفاء أنفسهم، الفرصة للقادة الطموحين لإقامة حكوماتهم الانفصالية في أنحاء مختلفة من الدولة.
ويبدو أن نجاحهم توافق مع رغبات الطبقة التي وقع عليها الظلم في تلك البلدان بالإضافة إلى الطبقة الوسطى من الفلاحين والحرفيين والتجار والملاك. فالتطور الصناعي لم يتم بسرعة كافية لامتصاص اليد العاملة الوفيرة، وتراجعت الزراعة بسبب الحروب وأعمال اللصوصية، كما أن حركة الجهاد تراجعت كثيراً، ولم تعد مخرجاً للعاطلين عن العمل، وبالتالي تواجد في كل مكان الكثير من الشباب الذين انضموا إلى الحركات الانفصالية.
وأدَّى ازدياد أعمال السلب والنهب وانتشار اللصوصية إلى تخوف الطبقة الثانية (الوسطى) من القلاقل الاجتماعية، مما دفع أفرادها إلى مُساندة الحكام القادرين على ضمان الأمن الضروري لنشاطهم الاجتماعي والحفاظ على استقرارهم. وعندما اندلعت الثورة كانت الولايات الإقليمية لا تزال تحت إدارة الخلفاء المباشرة أو تحت إدارة ولاة مخلصين لهم. وتغير أثناء الثورة كل شيء.
إذ فقدت فكرة جمع العالم الإسلامي تحت قيادة سياسية واحدة، أهميتها، وحلت محلها فكرة تحقيق المصالح الإقليمية للشعوب المختلفة التي انضوت تحت لواء الخلافة، بحيث يتلمس كل شعب شخصيته العنصرية الشعوبية، ويحاول أن يُنميها، وأن يرتفع إلى مستوى الانفصال، حتى جاء وقت حكمت فيه كل عنصرية نفسها بنفسها. وقد شجعت بعض الأطراف الداخلية هذا الاتجاه الشعوبي مثل المعارضة الطالبيين والمعارضة الخوارجية. ووقفت الخلافة عاجزة عن مقاومة هذا التيارات.
لكن الخلافة باعتبارها نظاماً أساسياً، كان وجودها في نظر المسلمين عامة ضرورة دينية لاستمرار الوحدة الإسلامية العامة. ذلك أنها تُشكّل رمزاً يربط أجزاء العالم الإسلامي المختلفة، وأن الشعوب التي تمسكت بانفصالها السياسي لم تُفكر بالانفصال الديني عنها، باستثناء ما كان من أمر الخلافة الفاطمية التي لم تعترف أصلاً بحق العباسيين بالخلافة.
واستوعبت الخلافة من جانبها هذه الظاهرة، فحرصت على التوفيق بين نزعات الشعوب ومطالبِها السياسية والاقتصادية وبين مبدأ الوحدة. لكنها عجرت عن تحقيق التوازن بين القوة المركزية في بغداد، وبين القوى اللامركزية النامية في الأقاليم، مما أدَّى إلى قيام الدول الانفصالية. فظهرت في المشرق الدول الطاهرية، والصمّارية والسامانية، كما قامت في مصر الدولتان الطولونية والأخشيدية. ثم حدث أن تأثر شمال إفريقية بالعامل المذهبي فقامت فيه الدولة العبيدية (الفاطمية).
إزاء هذا الواقع لم يجد الخلفاء العباسيون مفراً من الاعتراف بهذا الأمر وأُتيح لكل شعب، في ظل هذا الواقع الجديد الذي ارتضاه، أن يبني مستقبله في إطار الحضارة الإسلامية، وأن يُشارك بطريقة أو بأخرى في بناء الدولة الإسلامية بقدر كفاءته.
وفي هذا العصر الذي تغلبت فيه اللامركزية في شؤون الحكم، نجد اختلافاً سياسياً بين المشرق الإسلامي ومغربه. فبينما كانت الأقاليم الشرقية، أثناء تنمية اتجاهها العنصري الانفصالي، تحّرص على البقاء ضمن دائرة الخلافة، تكّن الاحترام لها، وتعترف بسلطانها الروحي، وتعمل جاهدة أن يكون قيامها بتأييد منها، لينهض ذلك دليلاً على وجود السيادة العباسية العُليا؛ اتجهت الدول الانفصالية فى المغرب نحو الانفصال التام مُستجيبة للمطالب العنصرية لأحزاب المعارضة.
وتولت الدول الانفصالية مسؤولية الدفاع عن العالم الإسلامي، كل في ناحيتها، ورفعت عن كاهل الخلافة هذا العبء، كما أنها مدَّت نفوذ العالم الإسلامي إلى أطراف جديدة رُبما لم تكن الخلافة المركزية بقادرة على تحقيق ذلك. وتصدّت أيضاً للهجمات المنفّذة على العالم الإسلامي.
وتبقى مناطق الثغور كوحدات تقوى وتضعف، وفقاً لتطور العالم الإسلامي، وحاجته للدفاع أو للهجوم، وتتآثر عادة بالخطر الخارجي وقوة الخلافة فقامت الدولة الحمدانية في مناطق الثغور الشامية والجزرية. أما ثغور ما وراء النهر فقد وقع عبء الدفاع عنها على عاتق الدول الانفصالية التي قامت في المشرق.
أما العراق، فكان له وضعه الخاص المُرتبط بالخلافة حيثُ ظلت تحكمه حُكماً مباشراً أو يحكم بإسمها حين يشتد ساعد العناصر المتطلعة إلى النفوذ حتى فقد الخليفة أخيراً نفوذه في العاصمة أمام تصاعُد نفوذ الأتراك، تماماً، كما فقده من قبل في الإقاليم ليصبح منصب الخلافة مجرد رمز تجتمع الدولة حوله.
وأخيراً تميّز العصر العباسي الثاني بتهاوي الروابط بين الخلافة وبين مصادر قوتها في الأقاليم، مما أدََى إلى ضعفها. وفقد الخليفة صفته كرأس الهرم التنظيمي لذلك النظام الذي سيطر على الحياة الإسلامية في العصر العباسي الأول، وبالتالي فقد تلك الهيبة التي اكتسبها في نفوس الناس، وكان نتيجة ذلك أن تعرض للامتهان.