ظهور نظام إمرة الأمراء:
لقد حدث تطورات جديدة في شؤون الحكم في عهد الخليفة الراضي حين بذلت كامل جهدها في استطاعتها أخيرة لإنقاذ الخلافة تناولت مركز الخلافة والوزارة ووضع الأتراك. وانتهى هذا التطور بظهور منصب أمير الأمراء الذي سيطر مُتقلده على مقاليد الحكم وامتدت صلاحياته إلى الضرائب والإدارة فهيمن على الخلافة حتى أضحى الخليفة مجرد رمز ولم يعد له من صلاحيات فعلية في ممارسة الحكم، وأزال نفوذ الوزراء، وتوقف الصراع بين الخلافة والأتراك الذي شغل جانباً كبيراً من العصر العباسي الثاني.
ابتدأ هذا المنصب بالظهور في عام (324 هجري) (936 ميلادي)، على حساب منصب الوزارة. ذلك أن الراضي استعان في إدارة شؤون دولته ببعض وزراء كانوا ضعافاً عجزوا عن النهوض بأعباء الوزارة، وفقدوا ما كان لهم من نفوذ، حتى أضحوا عرضة للتنكيل والمصادرة. ومن جهة أخرى، تراجع نفوذ الأتراك بفعل التفكك الذي ساد بينهم، والتنافس على مركز الصدارة، وتفشي الحسد بين قادتهم.
شعرت الخلافة نتيجة هذه الأوضاع المتردية، بضعف الوزراء، وبعجز الأتراك، وبفراغ الخزانة، فأخذت تتطلع إلى حكام الإمارات القريبة من العراق لتستعين بهم على إنقاذ الموقف الذي بلغ درجة خطيرة من التدهور. فاستدعى الخليفة الراضي، محمد بن رائق أمير واسط والبصرة وسلمه مقاليد الأمور، وأطلق يده في سلطات الدولة كلها ولقبه أمير الأمراء. وهذا المنصب هو عبارة عن نقل كل سلطات الخليفة إلى قائد تتوفر فيه صفات الرئاسة المدنية والقيادة العسكرية.
وقد وصف ابن الأثير أوضاع دولة الخلافة العباسية في عهد الراضي فقال: (ولم يبق للخليفة غير بغداد وأعمالها والحكم في جميعها لابن رائق ليس للخليفة حكم). وأما باقي الأطراف، فكانت البصرة في يد ابن رائق، وخوزستان في يد البريدي، وفارس في يد عماد الدولة بن بويه، وكرمان في يد أبي علي محمد بن الياس، والري وأصفهان والجبل في يد ركن الدولة بن بويه ويد وشمكير أخي مرداويج يتنازعان عليها.
والموصل وديار بكر ومُضر وربيعة في يدّ بني حمدان، ومصر والشام في يدّ محمد بن طغج، والمغرب وإفريقيا في يدّ أبي القاسم القائم بأمر الله بن المهدي، ويُلقب (بأمير المؤمنين) والأندلس في يدّ عبد الرحمن بن محمد الملقب بالناصر الأموي، وخراسان وما وراء النهر في يدّ نصر بن أحمد الساماني، وطبرستان وجرجان في يد الديلم. والبحرين واليمامة في يدّ أبي طاهر القرمطي.
ويبدو أن نفوذ ابن رائق قد ضعف في عام (326 هجري)/(938 ميلادي)، بفعل منافسة
الأمراء له. فقد حاربه أبو عبد الله البريدي حاكم الأهواز، كما خرج عليه أحد قادته ويدعى بجكم الذي دخل بغداد في عام (327 هجري/(939 ميلادي)، واستولى على مقاليد الأمور وآلت إليه إمرة الأمراء. أما ابن رائق فقد فرَّ إلى بلاد الشام. استمر بجكم في منصبه زهاء ثلاثة أعوام وصلت فيها الحالة العامة إلى درجة خطيرة من الفوضى والتدهور. وقتل ببجكم في عام (329 هجري)/(941 ميلادي)، بيد أحد الأكراد.
الأحداث في عهد المتقي:
قبل مقتل بجكم بأربعة أشهر تقريباً مات الخليفة الراضي في بغداد وعمره اثنتان وثلاثون سنة. وظهرت مدة خلافته فترة تصل إلى سبع سنوات تقريباً، فعملوا على مشاورة أعيان الدولة وأهالي البيت العباسي فيمن يصلح للخلافة. فرشحوا جعفر بن المقتدر لهذا المنصب وبايعوه في العشرين من (شهر ربيع الأول عام (329 هجري) شهر كانون الثاني عام (940 ميلادي)، ولقب بـ (المتقي).
كان المتقي (329 – 333 هجري)/(940 – 944 ميلادي)، مجرد ألعوبة في أيدي القادة المتنافسين على السلطة خاصة أبو عبد الله البريدي وابن رائق والحمدانيين. وانتقلت في عهده صلاحيات منصب أمير الأمراء إلى يد البريدي الذي برز بعد مقتل بجكم لكن دون أن يقلده الخليفة هذا المنصب تقليداً رسمياً وذلك بفعل مواقفه المتقلبة، واكتفى بأن جعله وزيراً، لكنه جمع إلى منصبه المدني قيادة الجيش فأضحى في حكم أمير الأمراء.
ويبدو أنه عجز عن تلبية متطلبات الجند وتلبياتهم المتزايدة، وأصبح هدفاً لمخططاتهم. فاضطربت الأمور في بغداد واضطر إلى مغادرتها وعاد إلى البصرة، فتقلد ابن رائق المنصب مرة ثانية، بعد أن استدعي من بلاد الشام فتفاهم مع البريدي وقلده منصب الوزارة.
وظل الأمر على ذلك مدة، ثم اختلف الرجلان، فعزل ابن رائق البريدي من منصبه. فجمع هذا جيوشه وهاجم بغداد فاضطر الخليفة وابن رائق إلى الهرب والتجأ إلى بني حمدان في الموصل واستولى البريدي على منصب أمير الأمراء ودخل بغداد للمرة الثانية نية.
لكن البريدي وجماعته لم يظفروا بمحبة الناس بفعل إمعانهم في السلب والنهب ومن جهة أخرى عين الخليفة ناصر الدولة الحمداني أميراً للأمراء في عام (330 هجري)/(942 ميلادي)، وأرسله على رأس جيش كثيف لمحاربة البريدي فأخرجه من بغداد وعاد إليها الخليفة في العام المذكور.
برز في هذه الأحداث القائد التركي توزون، فقلده المتقي شرطة بغداد ثم جعله أميراً للأمراء. وسيطر الحمدانيون في هذا الوقت على مقدرات الأمور في بغداد. لكن الوضع العام لم يتحسّن بفعل استمرار النزاعات الداخلية، فاضطر هؤلاء إلى ترك حاضرة الخلافة، خاصة وأنهم خسروا الحرب التي نشبت بينهم وبين توزون، وعادوا إلى الموصل بصحبة الخليفة.
الأحداث في عهد المستكفي:
يعتبر توزون من أقوى الأمراء الذين تولوا الأمر في العصر العباسي الثاني. فقد استطاع هذا الرجل أن يستولي على الحكم من متنافسين قويين هما الحمدانيين والبريديين. وخشي من محاولة الخليفة التقرب من الإخشيديبن في مصر، فتحايل عليه حتى عاد إلى بغداد مرة أخرى. فقدم له فروض الطاعة ظاهرياً وأوعز سراً إلى بعض أصحابه فقبضوا عليه وأجبروه على خلع نفسه ثم سملوا عينيه وذلك في شهر صفر عام (333 هجري) شهر تشرين الأول عام (944 ميلادي)، وسجنوه مدة خمس وعشرين سنة حتى توفي في عام (357 هجري)/(968 ميلادي). واختار توزرن عبد اللّه بن المكتفي خليفة ولقب بـ (المستكفي).
لم تطل خلافة المستكفي (333 – 334 هجري)/(944 -946 ميلادي)، فقد حكم سنة وأربعة أشهر استبد توزون خلالها بالسلطة، ثم خلفه ابن شير زاد، وبقي في منصب أمير الأمراء حتى استولى مُعزّ الدولة بن بويه على بغداد وألغى منصب أمير الأمراء.
والواقع أن دولة الخلافة العباسية لم تستفد من هذا النظام الذي أنشأه الراضي لإقامة الخلافة من عثرتها. بل زادت أحوالها سوءاً، وأن من يستقصي عهد الراضي والمتقي والمستكفي يجده عبارة عن سلسلة منازعات لا تنقطع بين رجال الدولة العباسية الذين عمل كل منهم على الاستئثار بالسلطة وتولي إمرة الأمراء.