عدم كفاءة السوق في توفير الخدمات الصحية في علم الاجتماع الطبي:
1- عدم العلم بمجريات السوق في مجال الخدمات الصحية:
ذلك أن العلم بها شرط أساسي لتحقيق ظروف المنافسة الكاملة، ولكن المعلومات في مجال الخدمات الصحية تمتاز بأنها غير متوافرة للمريض بالدرجة المتاحة للطبيب.
فإذا كان للمستهلك أن يحصل على جميع المعلومات التي تختص بالسلع الأخرى من السوق، مما يساعده على المقارنة بينهما وبين تفضيلاته الخاصة، فإنه في مجال الخدمة الصحية، ليس على علم مسبق بنوعية الرعاية التي سيحصل عليها، ولا يتمكن من الإلمام بظروف السوق، ولا حتى التعلم من تجارب الآخرين، إن الطبيب فقط هو الذي يعلم مدى جدوى الأساليب الطبية المتنوعة في كلة حالة مرضية، حتى أن البعض يصف الطلب على الرعاية الطبية بأنه طلب على المعلومات الطبية، وبالطبع فإن للطبيب المركز الممتاز في هذا الشأن عن المريض ﻷنه يحتكر هذه المعلومات.
2- العرض كمولد للطلب على الخدمات الصحية:
إن للطبيب مركزاً أفضل من المريض في العلاقة التي تربطهما معاً، بما لديه من المعلومات الطبية المطلوبة، والخبرة الفنية العالية، والتمكن من الأساليب الفنية للممارسة، ومسؤوليته عن تقديم كل التسهيلات إلى المريض ليستعيد صحته، وفي الوقت نفسه فإن لديه الحافز إلى بيع خدمات طبية أكثر، لتحقيق دخل أكبر.
ويعني ذلك أن الطبيب العرض يؤثر تأثيراً قوياً في دالة طلب المريض على الرعاية الطبية، وقد يترتب على زيادة الطلب كما في حالة الأمراض الخطيرة، حيث يلجأ المريض إلى الطبيب للتداوي غير مكترث بتكاليفه في سبيل إنقاذ حياته، قد يترتب على ذلك أن يبذل الطبيب من جانبه أقصى جهده في سبل خلق الطلب اللازم للحفاظ على مستوى دخله، أو في سبيل زيادة الرسم الذي يحصل عليه.
3- التمييز في السعر:
يتصف سوق الرعاية الطبية بمطاهرة التمييز في الأسعار، بحيث يضطر الطبيب الذي يزاول مهنته في عيادتين، على سبيل المثال إحداهما في منطقة راقية، وبالأخرى في مكان شعبي، إلى التتميز في أسعاره وفقاً لمستوى الدخل المادي للأفراد، على الرغم من حصولهم جميعاً على نفس الخدمة، كذلك فإن كثيراً من المستوصفات تتبع نظام التدرج في أسعار الخدمة للمرضى، فتنقسم درجات الإقامة إلى ممتازة وأولى.
ويرجع السبب في نجاح أسلوب التمييز في السعر في السوق الطبية إلى عدم إمكانية نقل الرعاية الطبية من مريض ما إلى مريض آخر، على حين يرى البعض أن التمييز مرغوبP ﻷنه يسمح لمحدودي الدخل والأثرياء على السواء بالحصول على نفس الخدمة، على أن هذا السلوك لا يخلو من الاحتكار فهو يستهدف أولاً وأخيراً زيادة دخل الطبيب.
ومن هنا يصبح من صالح المرضى أن يقدم النشاط العام الدولة بتوفير الخدمات الصحية، ويزداد هذا الأمر إلحاحاً في المجتمعات النامية التي يزداد فيها الطلب على الخدمات الصحية، وينتشر فيها الفقر والتعرض للأمراض المعدية وانخفاض المستوى المعيشي.
4- عدم مرونة انتقال عوامل إنتاج الخدمات الصحية:
يتميز منحنى عرض الأطباء بعدم المرونة في المدى القصير، ﻷنه محكوم بعدد الخريجين سنوياً، علاوة على أن قيود مزاولة المهنة مثل عدد سنوات التعليم والتدريب العملي في المستوصفات للتخصص ذات أثر خطير على هذا المنحنى.
كذلك فإن ظاهرة التخصص الدقيق تؤدي بدورها إلى ارتفاع تكاليف الخدمة الطبية، فالمريض يعالج على يد طبيب متخصص في جزء بسيط، وقد يضطر إلى استكمال علاجه عند طبيب آخر أو أكثر من طبيب، فإذا لم يجد تقدماً ملموساً لديه فإنه يضطر إلى التسوق هنا وهناك، فيذهب إلى الطبيب ثم إلى الطبيب آخر دون أن يخبر أحدهما بذهابه إلى غيره، بل وضح تالكوت بارسونز أن المريض إذا لم يرضى ويقتنع بالطبيب بعد الفحص فسوف يسلك أحد الطريقين أولهما، أنه قد يطلب استشارة طبيب ثالث معروف بالأسم، وثانيهما، أنه إذا أحس بتقديم ما فسوف يقطع علاقته بكلا الطبيبين.
ذلك أن المريض في حاجة ماسة إلى الخدمة، ﻷنه لا يعرف كيف يتصرف في مرضه ولا يعرف زملاؤه ولا حتى أعضاء أسرته، وفي المقابل فإن الطبيب خبير فني، حصل على تدريب فني وخبرة عملية، وهو مؤهل خصيصاً لمساعدة المريض في الموقف الحرج، ومن الطبيعي أن ترتفع أسعار الخدمة الطبية في حالة النقص في عرض الأطباء بصفة عامة، أو عرضهم في تخصصات معينة.
ويعتبر تدخل الدولة لمواجهة مشكلة النقص في عرض الأطباء في المدى القصير أمراً في أشد الضرورة، وذلك بتوفير المنح التدريبية قصيرة الأجل، والتخطيط للرعاية الصحية للسكان.