علم اجتماع كونت وسكونية المجتمع في علم الاجتماع:
عيّن أوجست كونت موضوع علم الاجتماع أو الفيزياء الاجتماعية، كما كان يسميه من قبل بأنه دراسة الظواهر الاجتماعية، بنفس الأسلوب الذي تدرس به الظواهر الفلكية والطبيعية والبيولوجية، على اعتبار أن هذه الظواهر تخضع كلها لقوانين طبيعية ثابتة، ولكن الظواهر الاجتماعية عند كونت لم تكن تعدو الظواهر الفكرية أو العقلية في المجتمع.
وعرف علم الاجتماع في مؤلفة الفلسفة الوضعية، بأنه دراسة ظواهر العقل الإنساني والأفعال الإنسانية الناتجة عنه، وبذلك أخرج كونت الواقع المادي الاجتماعي من نطاق دراسة علم الاجتماع، والأفكار بالنسبة لكونت هي التي تحكم العالم وتجعله منظماً أو هي التي تحيله إلى حالة من الفوضى والحالة الفكرية هي التي توجه وتحدد كل ما عداها من صور الحياة الاجتماعية.
ورأى كونت أن جوهر العملية التاريخية هو تطور الفكر، وبناء على ذلك قدم ما أسماه بقانون المراحل الثلاث، ويؤدي هذا القانون إلى أن العقل الإنساني يمر بمراحل ثلاث، المرحلة الأولى وهي ما أسماها بالمرحلة اللاهوتية، وهي تلك التي يفسر فيها العقل الظاهرات عن طريق نسبتها إلى قوى أو كائنات غير منظورة لها خصائص الإنسان، والمرحلة الثانية هي ما أسماها بالمرحلة الميتافيزيقية، وهي تلك التي يفسر فيها العقل الظاهرات عن طريق قوى مجردة مثل الطبيعة، والمرحلة الثالثة هي ما أسماها بالمرحلة الوضعية، وهي التي يقنع فيها الإنسان بملاحظة الظاهرات واستخلاص الروابط التي توجد بين بعضها سواء في وقت معين أو مع مرور الوقت.
وقد أقام كونت مجموعة من الارتباطات بين المراحل العقلية الأساسية، ومراحل تقدم الحياة المادية للإنسان ونموها، وأشكال الوحدات الاجتماعية، وهكذا نرى أن افتراض كونت عن طبيعة الواقع الاجتماعي افتراض مثالي، بمعنى أنه يرى أن الفكرة أو الحالة العقلية هي التي تحدد ما بداها من كافة صور الحياة الاجتماعية.
فالفكر اللاهوتي يجعل النظام هو السائد ويجعل من الأسرة نموذجاً للوحدة الاجتماعية ويحدد المشاعر، أي أنه يخلو تماماً من أي إشارة طبيعة الحياة الاجتماعية الإنتاجية، كما وجدنا خلطاً كبيراً في المفهومات لمرحلة الصناعية التي صاحبت الوضعية سبقتها مرحلة تشريعية، وكأن كونت يجعل من المرحلة الصناعية أيضاً مرحلة إنتاجية بينما يبين ارتباط المرحلة التشريعية أو العسكرية بأي نوع من أنواع النشاط الإنتاجي.
والمرحلة الوضعية عند كونت هي نهاية المطاف في تاريخ البشرية، وهي تتصف بكل ما هو خير وجميل ففيها العلم والصناعة والإنسانية والعالمية، والإحسان والخير ولا يخفى هنا أيضاً تقدير كونت للماضي الذي كان يتصف لاحترام والتوقير والمحبة والانتماء.
لقد تحول تاريخ البشرية جمعاء عند كونت إلى تاريخ أفكار ومشاعر أصيب هذا التاريخ بالجمود عند القرن التاسع عشر ولم يعد أمام الإنسانية هدف تصبو إليه إلا المحافظة على ما وصلت إليه والتحسين منه، فليس في الإمكان أبدع ممّا كان.
وقد سلم كونت بأن مجتمعات البشرية لم تسر في نفس هذا الخط من التقدم بنفس الدرجة، ولكن حدث تفاوت فيما بينها في بلوغ المرحلة الوضعية أو الصناعية والدول الأوروبية هي التي وصلت إلى هذه المرحلة، وفسر ذلك تفسيراً عنصرياً إذ أنه قد افترض أن الأجناس البشرية تتفاوت فيما بينها من الناحية العقلية.
ولقد كان تفسير كونت للتاريخ على أساس مضاد للمادية عاملاً على تيسير مهمته، فهو قد احتفظ بفكرة عصر التنوير القائلة بأن التقدم هو قبل كل شيء تقدم عقلي، وهو النمو المستمر للمعرفة الوضعية، غير أنه أفرغ فكرة عصر التنوير هذه من محتواها المادي بقدر ما تمكن، وبذلك التزم بالوعد الذي قطعة على ذاته، وهو أن يستعيض بحركة عقلية ضخمة عن القلاقل السياسية العقيمة، ففكرة التقدم عند كونت تستبعد الثورة، والتغيير الكلي لنسق الظروف الموجودة، ولا يعدو النمو التاريخي إلا تطوراً متوافقاً للنظام الاجتماعي في ظل قوانين طبيعية ثابتة.
وقد أطلق كونت على دراسته لتتابع هذه المرحلة التاريخية تسمية الديناميكا الاجتماعية أو علم الاجتماع الديناميكي في مقابل علم الاجتماع الاستاتيكي أو السكوني، الذي يدرس قوانين النظام في المجتمع وشروط وجوج المجتمع، وهذان العلمان يشكلان سوياً علم الاجتماع عند كونت ولا انفصال بينهما.
وهكذا يبدو أن كونت يهدف إلى دراسة كل قوانين الحركة والسكون في المجتمع، ولكن الحقيقة أن الدراسة الديناميكية عند كونت هي الأخرى دراسة للثبات والسكون، وهنا تتضح مسلمة أخرى أو افتراض آخر عن تصور كونت لطبيعة الواقع الاجتماعي هي مسلمة الثبات في مقابل التغير.