علم الاجتماع السياسي في الفكر الدور كايمي الجديد

اقرأ في هذا المقال


يصدر ما يقوم به أنصار دور كايم الجدد من دراسات عن اهتمامه بدور الضمير الجمعي كعامل محدد للسلوك وداعم للفرد، وكذلك ما قدمه من سبل ترسيخ هذا الضمير كالطقوس والممارسات ومشاعر الانتماء والتكاتف التي تجمع كافة أفراد المجتمع تحت لوائها، في محاولة منهم للتعامل مع إشكالية الأساس القيمي للتماسك الاجتماعي، ففي حين ينكر دور كايم أي دور للسياسة.

علم الاجتماع السياسي في الفكر الدور كايمي الجديد

جاء على لسان ليوكس في أوائل كتاباته أن دور كايم يفترض وجود كيان يجمع ما هو عادي بما هو مثالي وما يحتمل حدوثه، حيث يعتمد أنصاره الجدد إلى دراسة صعوبات إنجاز هذا التماسك، وسبل المحافظة عليه، وكذلك التمكن من التوسع في تطبيق مفاهيم الموازنة الاجتماعية في المجتمعات المعاصرة التي تتسم بالتعقيد.

يتخذ جيفري الإسكندر من كتابات دور كايم الأخيرة المعينة بالحياة الدينية نقطة البدء في كتابه المدار المدني، حيث يرى أن الجوانب الروحية هي ما يحقق التماسك المجتمعي، رغم ما قامت به العلمانية الإنسانية من دور فاعل في تحول كثير من المجتمعات المعاصرة، مستشهداً على ذلك بالقداسة التي يشعر بها المواطن حيال الفكر الديمقراطي، فهو يذود عنها بكل نفيس وغالي ضد ما قد يحدق بها من أخطار تدنسها، سواء أكان مصدر هذا الخطر أفراداً أو أحداثاً أو نشاطات.

لذا يرى الإسكندر وجود مدار مدني محوره الأساسي مجموعة القيم الثقافية التي تحافظ على هذه الثنائية القائمة بين عشاق الديمقراطية ومعارضيها، ويعتبرها الجميع مرجعية راسخة حال قيام أي جدل سياسي، وذلك المدار في تواكب مستمر مع باقي المدارات في كافة المجتمعات المتمايزة آخذاً شكل المجال الضامّ والمميز الثقافي للمجتمع بكافة مؤسساته.

شروط الانضمام للمدار المدني في علم الاجتماع السياسي

يشترط للانضمام لهذا المدار المدني تمتع الفرد كبير من الدافعية والتصرف بديمقراطية أي بعقلانية وواقعية، مبتعداً عن كافة أشكال التهور والرعونة داعماً العلاقات الاجتماعية الديمقراطية التي تتسم بالانفتاح والثقة والصحة، والمؤسسات القائمة على لوائح وتنظيمات وليست عشوائية اعتباطية، والداعمة للمساواة بين أفرادها وليس للتدرج الوظيفي الهرمي، والحريصة على لم شمل كافة أفرادها وليس إقصاء البعض لمصلحة البعض الآخر، وكل من يثبت تدنيسه لهذه الرؤية يصبح مغضوباً عليه، معزولاً ومهمشاً على أطراف المجتمع المدني، بل قد يستدعي الأمر القضاء عليه نهائياً.

وقد يتسع مجال المدار المدني ليشمل من عانوا من التهمي والإقصاء في السابق من فئات مجتمعية إذا ما استطاعت تلك الفئات الالتزام بقواعد وتنظيمات المدار المدني في مؤسساتها، وبل قد تغزو هذه التنظيمات مجالات أخرى غير مدنية كالاقتصاد والدولة والأسرة والمعاملات الدينية، وبذلك يولي الإسكندر اهتماماً بالغاً بالحركات الاجتماعية التي تمثلت، وجسدت بنجاح باهر، كل ما جاء به المدار المدني من قواعد يبنى عليها المجتمع المثالي.

يتضمن البرنامج القوي لعلم الاجتماع الثقافي الذي طرحه الإسكندر، وجسده المدار المدني في أسمى حالاته، شرحاً معقداً لمدى التداخل والتناغم الحاصل بين الثقافة والبنى الاجتماعية والسلوك الاجتماعي، إن ما يهمنا هنا هو إغفال كتاب المدار المدني لقضايا السياسة، تماماً مثلما فعل دور كايم من قبل، على الرغم مما قدمه الكتاب من تحديث رائع ﻷفكار دور كايم يلائم إلى حد بعيد القرن الحادي والعشرين.

لكن تنظير الإسكندر الوارد في المدار المدني لم يغفل رجال السياسة، فلم يجد غضاضة من أن يتوسع نطاق المدار المدني ليشمل كل من همش من قبل، فالاستخدام القويم لرموز الديمقراطية يميز أفراده، لذلك يعتمد على الحراك الاجتماعي من أجل إصلاح أي خلل يشوب التماسك الاجتماعي، إلا أن أعمال الإسكندر تقر بأن المجتمع المثال الحي الذي تمحورت تحليلاته حوله يتسم بالعدالة، حتى وإن تم إقصاء بعض فئاته من المدار المدني، فإن مرد ذلك هو إيكال الأمر لساسة أخطأوا، ثم قام علماء الاجتماع لاحقاً بتوجيه اللوم لهم لما قاموا به من تدنيس لقواعد الديمقراطية.

مواقف جيفري الإسكندر في علم الاجتماع السياسي

ورغم محاولات الإسكندر المتعددة أن يظهر نفسه في موقف المحايد اجتماعياً، إلا أنه في اقع الأمر يميل إلى الإصلاح الاجتماعي المتساوي، رافضاً في الوقت ذاته للتفسيرات السلطوية الفوقية لخصائص الانتماء الاجتماعي والمنظمات الاجتماعية، لذا فإن الإسكندر ينأى مثلما دور كايم، بنفسه عن معترك السياسة حال الإقدام على إصلاح اجتماعي.

والسؤال الذي لا مناص منه هو ما المبرر الذي يدفعنا للتعامل مع الأمثلة التاريخية التي ساقها الإسكندر ليثبت استنتاجاته بشأن بنية المجتمع على أنها ليست سوى حالات فردية ناجحة لاستخدام قواعد التقدم في عدد من المواقف المتفرقة؟ وحقيقة الأمر أن الإسكندر ينحو في فهمه للبناء الثقافي العميق للمجتمع تجاه العدالة، ﻷن كافة مكونات المدار المدني تنبذ السياسة نبذاً، وتعدها في أحسن الأحوال أمراً ثانوياً.

ورغم إقرار الإسكندر بوجود خلافات حول تفسير قواعد الديمقرطية، وهي الخلافات التي لم تظهر في نموذج دور كايم، ﻷن احترام الحقوق الفردية ركن ركين في بناء الديمقراطية المقدس، إلا أن المدار المدني لا يستثنى منه أحد بالكلية، ففي حين قد يحدث وتقصى جماعة ما تاريخياً، فإن القواعد العامة للمدار المدني، والتي تتسم بشموليتها وعالميتها، تحمل في طياتها منطقاً يقاوم تصنيف أي شخص على أنه خارج المجتمع الديمقراطي، عن معارضة المقومات الثقافية ذاتها للازدواجية القائمة بين ما هو مقدس ونظير المدنس، الذي لا يكاد يخلو من لمسة قداسة.

ويبرر الإسكندر ذلك بالقول بأن التعريفات المحددة للشر المحرك ﻷعداء الديمقراطية لا تقل في أهميتها عن تعريفات القداسة التي يتمتع بها الديمقراطيون، واللافت للأذهان هنا أن تحليله للأحداث والحركات الاجتماعية يتسم بالتقدمية، ولا يؤخذ عليه إلا ما وجهه لدور كايم من قبل من نقد يخص رؤيته لمبدأ الوظيفية الاجتماعية التي تفيد بأن ما له نفع يصبح الأنموذج الطبيعي الذي يجب أن يسود.

وبالمثل يتسم المدار المدني بالعدالة الشديدة التي لا يقوضها أية إقصاءات تاريخية، بل إن تلك الإقصاءات ستزول يوماً ما، وينبغي جعل ذلك هدفاً منشوداً، حتى وإن تضمنت ذلك بعض المعاناة من دماء ودموع ومسائل تتعلق بالحياة والموت، لكن الراسخ في رؤية الإسكندر هو قوله بسطحية النزاعات السياسية، وزوالها الحتمي بعد فترة وجيزة ما دامت العدالة هي الشغل الشاغل للمدار المدني.

يجب التعامل مع أعمال دور كايم ونظرية كارل ماركس وماكس فيبر سواء بسواء، فكلها أطروحات ذات أثر بارز في علم الاجتماع السياسي، ويزيد هذا الأثر في علم الاجتماع السياسي المعاصر، نظراً لتأكيد دور كايم على اتخاذ المعاني الرمزية والقيمية محوراً لتكون العلاقات الاجتماعية، فهناك دليل دامغ مثلاً على تأثير فرديناند دو سوسير بفكر دور كايم، وهو العلم البارز والقامة العالية في علم الاجتماع السياسي المعاصر.


شارك المقالة: