علم الاجتماع السياسي لدى إميل دور كايم

اقرأ في هذا المقال


لم تنل أعمال إميل دور كايم في علم الاجتماع السياسي نفس شهرة وتأثير الآراء التي نادى بها نظيراه كارل ماركس وماكس فيبر؛ ﻷن الدولة في رأي هذا الأول تقول بدور ثانوي في الحفاظ على استقرار المجتمع، وهي القضية التي ارتأى فيها إميل دور كايم بيت القصيد في علم الاجتماع، خاصة قضايا التماسك الاجتماعي، وما يصاحب نمو روح الفردية من شعور بالانتماء للجماعة، وليس العِداء بين كافة أفراد المجتمع.

علم الاجتماع السياسي لدى إميل دور كايم

لا يعني أن دور الدولة في حماية الاستقرار المجتمعي ينعدم بالكلية، بل يظهر ذلك جلياً في ضمان تشارك أفراد المجتمع في ضمير جمعي أخلاقي وقيمي، حتى وإن تطلب الأمر أحياناً أن تأخذ الدولة زمام القيادة في صياغة هذا النسق القيمي الأخلاقي.

علاوةً على أن الدولة في حد ذاتها، كما يرى دور كايم هي نتاج لتقسيم العمل في المجتمعات الحديثة، ولها نصيب في توسيع رقعة الحرية الفردية، لكن الدور الأبرز للدولة هو رعايتها للضمير الجمعي للمجتمع المتمثل في كافة الرموز المعبرة عن المعتقدات والقيم التي يمارسها أفراد المجتمع من خلال الطقوس العقائدية الهادية للأفراد والمحددة لسلوكهم، لذا يشبه إميل دور كايم الدولة بالعقل المسؤول الأول عن التفكير.

تعمل الوحدة العضوية على تحقيق تماسكه في المجتمعات الحديثة من خلال شعور أفراد المجتمع بالتكاتف فيما بينهم لقيامهم بأدوار اجتماعية مهمة ومتكافئة، واحترام كل فرد منهم لحقوق الآخرين، وذلك خلافاً لما كانت عليه فكرة التماسك التي ذاع صيتها في مرحلة ما قبل المجتمعات الحديثة، حيث كان للتشابه في نمط الحياة دور العامل الحافز الذي يساعد على نمو الشعور بالانتماء للمجتمع، وترعة الدولة هذا التماسك المجتمعي بخلق الضمير الجمعي، وتطبيقه على أرض الواقع في صورة قرارات ملزمة بقوة القانون والسياسة من أجل تحقيق الخير الأسمى لجميع أفراد المجتمع.

رغم يقين إميل دور كايم من أنّ ما يؤدي دوراً وظيفياً نافعاً للنظام الاجتماعي لا بدّ وأن يتواجد حتماً على أرض الواقع، فقد وجد هانز بول مولر أن آراء إميل دور كايم حول علم الاجتماع السياسي لا تنقص بذلك اليقين من إمكان تحقيق التماسك الاجتماعي، والسبب في ذلك هو ما شهده دور كايم من صراع محموم جراء تحول المجتمع في القرن التاسع عشر من مجتمع زراعي إلى صناعي رأسمالي.

رؤية إميل دور كايم للإصلاح المجتمعي رعاية النقابة العمالية

لقد اختلفت رؤية إميل دور كايم لهذا الصراع عن نظرية كارل ماركس وماكس فيبر، حيث نفى أن يكون الصراع عنصراً أساسياً في المجتمعات الحديثة، فحيثما نشب صراع، ففي ذلك دلالة قطعية على غياب التكامل الاجتماعي السليم، والتناسق القيمي القويم.

لذلك وجد إميل دور كايم في إصلاح المجتمع ضرورة حتمية تحول دون تسلط روح الأنانية والمصالح الشخصية على الفردية والأخلاقية، وذلك بتحقيق أكبر قدر من التناسق بين الدولة الديمقراطية والفئات المهنية والمثل الفردية، فيما يسمى بمجتمع الجدارة، حيث رأى دور كايم أن الثروات الموروثة تقف حائلاً أمام وجود ثقة بين أطراف المعاملات القانونية التي تعد أحد أهم أعمدة الاقتصاد الحديث.

كما شملت رؤية إميل دور كايم للإصلاح المجتمعي رعاية النقابات العمالية من أجل تيسير سبل التواصل بين الدولة والفرد، وحماية حقوق الأفراد إذا ما حاولت الدولة التجني عليها، وفوق كل ذلك رعاية الضمير الجمعي والنسق القيمي لتحقيق المصلحة العامة، ومثال ذلك ما نادى به إميل دور كايم من ضرورة تصويت الأفراد حسب انتماءاتهم العمالية، وليس وفقاً لمحل إقامتهم، حتى تتجلى في المجتمع روح الانتماء والمصالح المشتركة بين أفراد النقابة، ثم يشيع الأمر ليتحقق الانتماء المجتمعي بالتبعية.

أي أن النقابات العمالية ليست إلا جماعات تلتف حول قيم محددة تعيد تشكيل المصالح الفردية الذاتية، بحيث تتجانس في كيان كلي يحقق مصلحة باقي أفراد الجماعة، ولا يسمح بطغيان مصلحة فردية على حساب مصالح الآخرين.

التعددية لدى إميل دور كايم في علم الاجتماع

يبدو أن إميل دور كايم ينظر للنقابات على أنها مؤسسات حقوق مدنية، وليست جماعات مهنية بالدرجة الأولى، مما يعطي أفكاره الصبغة التعددية، ولو في جانب منها، في ظل اهتمامه البالغ بإقرار حالة من التجانس والتناسق المجتمعي يستحيل معها الصراع الاجتماعي أمراً عدمياً، لا يمكن أن يحدث مطلقاً، ﻷنه يقول بوجود مجموعة من الشخصيات أو الفئات الاجتماعية، التي تضطلع بوظيفة تتيح لهم تفسير النسق القيمي للمجتمع نيابة عن غيرهم.

تنبع أصالة فكر إميل دور كايم من احترامه الكامل للمساواة بين أفراد المجتمع، وجعلها السبيل القويم لاستقرار المجتمعات الحديثة، خلافاً للنظرة المحافظة التي طالما قولبت آراءه وفقها، والحق أن باقي آراء إميل دور كايم هي بالفعل آراء محافظة، أو فلنقل رجعية.

ويرتبط التعددي المحدود بالسياسة وأكثر تحديداً بالسلطة، حيث يصعب معه النظر لتشكيل الهويات الاجتماعية، وصياغة التنافس فيما بينها، على أنه أمر سياسي بالدرجة الأولى، ورغم عدم تسليم التعددين بأن مصالح الفئات الاجتماعية التي يعكفون على دراستها هي مصالح مسلّم بها، ولا تقبل جدالاً.

نجد أن تعريفهم للسلطة والسياسة يحول دون فهمهم الصحيح لتكوين الهويات السياسية، والتنافس الذي يدور بينها في المجال الاجتماعي، واقتصارهم على دراسة الأسلوب الذي يحاول الأفراد من خلاله تعظيم منافعهم على مستوى الحكومة، وهو ما يدفعنا للجزم بأن ما جاء به أنصار التعددية لا يختلف عن النهج الذي رسمه الرعيل الأول من علماء الاجتماع السياسي.

فرغم اهتمامه بقضية الإصلاح الديمقراطي، نجد أن طرحه الخاص بمفهوم المجتمع ككل لا يسمح بوجود عمل سياسي على الإطلاق، ﻷن الصراعات المجتمعية لديه ليست سوى حالة مرضية عارضة، يعالجها إميل دور كايم بفكرة الاتفاق المجتمعي حول تفسير النسق القيمي، سواء فيما يخص تجانس المعايير الثقافية للمجتمع، وضمان السلامة الأخلاقية لأفراده، أو وجود معايير قويمة يتشكل وفقها المجتمع، ويحددها علماء الاجتماع.

الصراع الاجتماعي عند دوركايم في علم الاجتماع السياسي

فالصراع الاجتماعي الذي هو سمة أساسية للمجتمعات الحديثة لدى كارل ماركس وماكس فيبر، يعد عرضاً مرضياً لدى إميل دور كايم نتيجة التحول الجذري نحو نمط اجتماعي جديد يؤدي فيه علم الاجتماع دوراً تشريعياً خاصاً، إذ يتسم هذا الدور لدى إميل دور كايم بالاكتشافية، ولا مكان فيه للعمل السياسي، في ظل وجود إصلاح مجتمعي يقوم على أسس علمية، فالسياسة ميدان للتشرذم والفرقة اللذين ينعدمان في نموذج إميل دور كايم الاجتماعي القيمي؛ ﻷن السياسة والأخلاق عنده لا يجتمعان معاً.


شارك المقالة: