علم الاجتماع والقيم السياسية في علم الاجتماع

اقرأ في هذا المقال


علم الاجتماع والقيم السياسية في علم الاجتماع:

قد يصل الأمر بدارس المجتمع إلى الاعتقاد بأن معلوماته المتخصصة حول المجتمع تؤهله ﻷن يصبح طبيباً قادراً على معالجة أمراض المجتمع أو مخططاً لبرامجه أو راسماً للسياسة الاجتماعية داخله.

وقد تبنى أوجست كونت رؤية معينة مفادها إمكانية تأسيس مجتمع جديد على المعرفة المستمدة من العالم الجديد الذي ادعى أنه اكتشفه وهو علم الاجتماع، وأشار ذلك العالم إلى ضرورة إحداث تحولات أخلاقية في الجنس البشري، ودعا إلى ظهور ديانة جديدة هي ديانة الإنسانية.

وهكذا ارتبطت نشأة علم الاجتماع في العالم الغربي ارتباطاً وثيقاً بقضايا السياسة والأهداف العلمية داخل المجتمع، وقد ظهرت فيما بعد عدة محاولات للفصل بين علم الاجتماع والسياسة أو القيم السياسية.

فقد حاول دور كايم قدر استطاعته التمييز بين علم الاجتماع والعقيدة الاجتماعية، حيث أشار في كتابه عن قواعد المنهج في علم الاجتماع، إلا أن علم الاجتماع لا يمكن أن يكون علماً فردياً أو شيوعياً أو اشتراكياً، فهو من حيث المبدأ يجب أن يتجاهل مثل هذه النظريات السياسية التي ليس لها أية قيمة من الناحية العلمية.

والتي لا تستهدف تفسير التنظيم الاجتماعي وإنما تستهدف علاجه وإصلاحه، وقد ظهر هذا الاتجاه عند العديد من علماء الاجتماع مثل باريتو الذي حذر من تدخل العواطف والانتماءات الشخصية في البحث السوسيولوجي، وضرورة التركيز على دراسة ما هو كائن، وليس كما ينبغي أن يكون، وقد ناصر ماكس فيبر هذا الاتجاه حيث أشار إلى ضرورة أن يكون علم الاجتماع موضوعياً أو خالياً من القيم، وهذا يعني ضرورة عدم التزام الباحث بأية أفكار أو توجيهات مسبقة.

وعلى الرغم من أن التطلع نحو علم خال من القيم ومحقق للحياد السياسي وللموضوعية الكاملة، كان هو التطلع السائد لدى رواد علم الاجتماع، إلا أنهم لم يلتزموا بذلك التوجيه، فقد دافع دور كايم عن النظام الرأسمالي ووجه أعنف انتقاده للنظام الاشتراكي كما حاول انتقاد النظرية الماركسية.

هل التزم باريتو بأصول المنهج العلمي؟

كذلك فإن باريتو لم يلتزم على الإطلاق بأصول المنهج العلمي كما عرض في دراساته، ودافع عن الارستقراطية واعتدى على الديمقراطية وعلى النظم الماركسية بأسلوب يتضح منه الخلفية الأيديولوجية التي انطلق منها، فالديمقراطية في نظره هراء، وفكرتها كلام فارغ أذاعه الضعفاء وهكذا لم يكن من الغريب أن يصبح باريتو ماركس البرجوازية.

كذلك استهدف فيبر من نظريته السوسيولوجية تقديم نموذج من التفسير يقف في وجه النموذج الماركسي في تفسير المجتمع والتحول الاجتماعي والسياسي، فقام بإبراز أهمية التوجيهات القيمية في تفسير بناء المجتمع وتغيره في مقابل التركيز الماركسي على العامل الاقتصادي.

وقد ظهرت طائفة من علماء الاجتماع يرفضون فكرة موضوعية علم الاجتماع أصلاً، ويقول آخر فإن هذه الطائفة ترفض فكرة التزام علم الاجتماع بقضايا المجتمع، فهو في نظرهم علم ملتزم بطبيعته، فقد أشار روبرت لند على سبيل المثال في إحدى محاضراته بجامعة برستون والتي نشرت فيما بعد بعنوان معرفة من أجل ماذا، إلى رفض النموذج التقليدي للعلم المحايد، وأكد أن العلوم الاجتماعية كانت وما زالت أدوات أو وسائل لمعالجة مواقف التوتر داخل المجتمع، وطالب لند بضرورة التزام العلم الاجتماعي بالإسهام في رسم السياسة المواجهة للمجتمع.

وقد عبر رايت مليز عن رأي مماثل في دراسته المشهورة عن الخيال السوسيولوجي الذي نشره سنة 1959، حيث عبر عن أسفه لافتقار علم الاجتماع ما أطلق عليه الدفعة الإصلاحية، فعلم الاجتماع قد فشل في نظره حتى الآن في الدفاع عن قضايا الحرية وترشيد الحياة الاجتماعية، على الرغم من أن أغلب الأبحاث السوسيولوجية تؤكد تعرض الحرية والعقلانية للعديد من المخاطر في العالم الحديث.

ويناصر العالم السويدي جنر ميردال، الذي قام بالعديد من الدراسات السوسيولوجية الاقتصادية لمجتمعات الدول النامية، قضية التزام العلم الاجتماعي بقضايا المجتمع، فقد ذكر في إحدى مقالاته بعنوان العلاقة بين النظرية الاجتماعية والسياسة الاجتماعية، على أن المجتمعات اليوم تفتقد إلى وجهات نظر، يمكن لعلماء الاجتماع والعلوم الاجتماعية تقديمها، وفي هذا الإطار يصبح العلم الاجتماعي المحايد مجرد هراء، وهو يؤكد أن مثل هذا العلم لم يوجد على الإطلاق.

وقد أثارت الدعوة التي أطلقها كل من لند ومليز وميردال، والتي تدور حول حتمية التزام العلوم الاجتماعية بقضايا المجتمع الكثير من النقاش والحوار بين الباحثين في علم الاجتماع، ولا شك في أن هذه الدعوة تتضمن بعض الحق ولكنها لا تتضمن كل الحق.

فعلم الاجتماع شأنه مثل غيره من العلوم الأخرى، يمكن أن تسهم نتائج أبحاثه في إفادة المجتمع وتقدمه ومواجهة مشكلاته، وتكمن المشكلة الأساسية في هذا العلم في تأثر أغلب الدراسات التي تتم في نطاقه بالتوجيهات القيمية أو الأيديولوجية المسبقة سواء بطريقة شعورية أو لا شعورية، ويذهب البعض إلى أن مجرد الرغبة في المعرفة هو في حد ذاته قيمة.


شارك المقالة: