كيف طرحت مسألة التعاليم حول المجتمع قبل ظهور الماركسية

اقرأ في هذا المقال


إن تطور المجتمع يختلف عن تطور الطبيعة، قبل كل شيء في أنه في الطبيعة لا تفعل مفعولها سوى القوى العفوية وغير الواعية، بينما الناس هم الذين يصنعون الحياة الاجتماعية، وقد وهبتهم الطبيعة الوعي والإرادة، فيطرحون أمامهم أهدافاً ومهام معينة.

كيف طرحت مسألة التعاليم حول المجتمع قبل ظهور الماركسية

تنتصب مسألة أمام علم الاجتماع، وهي مسألة السمة الموضوعية لقوانينه، فإذا كان الناس هم الذين يصنعون تاريخهم، وهم يقومون بذلك بصفتهم كائنات واعية، فهل هناك قوانين موضوعية، أي قوانين لا تتوقف على إرادة الناس، تسير التطور التاريخي؟

لقد بذلت فلسفة التاريخ التي سبقت الماركسية جهوداً وطاقات هائلة لمواجهة هذه المسألة، حيث أنها لم تستطع حلها، فغالبية المؤرخين والفلاسفة، الذين تخلوا عن النظرة الدينية إلى التاريخ اعتبروا أن الناس يقيمون علاقاتهم الاجتماعية عن وعي ومعرفة، وهم يصنعون التاريخ حسب مشيئتهم ورغباتهم تبعاً لعقائدهم ومثلهم العليا.

كيف انعكست الأفكار الماركسية على التطور التاريخي

لقد انعكست هذه الأفكار عن التطور التاريخي في النظريات العديدة المنتمية إلى مدرسة العقد الاجتماعي بشكل أوضح من غيرها، ورغم ما هناك من فروقات عميقة بين نظريات العقد الاجتماعي، التي تمسك بها توماس هوبز، فإنه انطلق من أن المجتمع ظهر نتيجة لاتفاق بين الناس، وإذا تمسكنا بهذه النظرة فنستطيع أن نتصور منطقياً كل مراحل تطور البشرية باعتبارها نتيجة لنشاطات الناس الواعية.

فإذا كان التاريخ قد سار في مسيرة لا ترغب بها الغالبية من الناس، وإذا عانت البشرية من ويلات ومآسي الحرب والظلم والكوارث المختلفة، فإن ذلك في رأي أنصار هذه النظرة، نتيجة لآراء باطلة كان الناس قد تمسكوا بها، ولذلك فقد بحثوا عن كيفية تغيير مسيرة التاريخ في إصلاح هذه الآراء والأفكار الباطلة.

فقد كتب توماس هوبز، الفيلسوف الانجليزي الذي عاش في القرن السابع عشر، بهذا الصدد يقول، لو كانت أسباب أفعال الناس معروفة بنفس تلك الدقة التي نعرف بها التناسب بين أحجام الأشكال الهندسية، لبدت مظاهر الطموح والجشع واهنة، ولتمتع الجنس البشري بسلام حقيقي إلى درجة تنعدم فيه إلى الأبد كل إمكانيات التصادم والقتال.

إلا أنه ورغم ما يبدو في هذه التفسيرات من أقوال معسولة فإنها لا تطابق أبداً كل تاريخ الماضي، فبالرغم من أن الناس كانوا يتحركون ككائنات واعية، وكانوا يطرحون أمامهم أهدافاً معينة، فإن نتائج نشاطاتهم كانت في غالب الأحيان لا تطابق مقاصدهم قطعاً.

فعلى مدى آلاف السنين كان التاريخ يسير مسيرة معاكسة لتطلعات وأماني غالبية الناس، المنتجين الأساسيين للخيرات المادية، فقد جلب لهم التاريخ التعاسة والفقر والإفلاس بدلاً من أن يحقق آمالهم في أن يعيشوا عيشة مضمونة أكثر من السابق، حيث نجد أن التاريخ يشهد على تطور الأحداث لا تعينه مقاصد وأهداف الناس وحدها، فيبدو أن هناك قوى عفوية لا تتوقف على رغبات وإرادة الناس، هي التي تتحكم في هذا التطور.

نظرة العالم جورج هيجل في التطور التاريخي

اعتبر جورج هيجل، طبقاً لنظريته المثالية، أن التاريخ هو تطور وتجسيد للروح العالمية، فهل يصنع الناس تاريخهم عن وعي ومعرفة؟ كان جوان هيجل عن هذا السؤال أنه ليس هناك في التاريخ شيء يحدث بدون أهداف الناس وتطلعاتهم، وإن الشخص المنفرد والشعوب والدول المنفردة على السواء تسير وراء مصالحها وتناضل من أجل تحقيقها، حيث أن الذي يتحقق في التاريخ دائماً ليس ما يرغب به الناس ويستهدفون تحقيقه فحسب، إنما يتحقق كذلك ما تحتوي عليه أفعالهم بصورة مخفية، أي تتحقق أشياء كانت غير معروفة لهم ولا تتفق ومقاصدهم، ويختتم هيجل تمهيده لكتابه فلسفة التاريخ، فيصور لنا تاريخ العالم بجلاء، باعتباره صورة من التغيرات والأفعال المتنوعة والمتعددة والتي لا نهاية لها، التي تقوم بها الشعوب والدوا وبعض الناس.

فيقول هيجل بهذا الصدد، نحن نرى أعمال الناس وأهدافهم في المقام الأول في كافة الأحداث التاريخية، فتارة تدهشنا بجمالها وحريتها وبمحتواها الغني، وتارة أخرى نجد مجموعة من المصالح العامة التي لا تكاد تتقدم إلى الأمام، حيث أن ما نراه في الغالب هو اجهاد القوى الصغيرة اجهاداً لا نهاية له، حيث تنجم أشياء عظيمة من أشياء كانت تبدو لنا ضئيلة، وفي آن واحد وتحت سطح الأحداث المتشابكة والمتنوعة تجري أعمال داخلية لا نشاهدها، تعد بصورة طبيعية لعصر جديد من تاريخ العالم.

إن نظرة هيجل هذه مكنته من أن يتصور مسيرة التاريخ العامة وإدراك دور الشخصيات البارزة وتقدير أهميتها في تطوير الشعوب بشكل أعمق وبما لا يقاس بالنسبة للفلاسفة الذين سبقوه، حيث أن نظرية هيجل المثالية كانت تحتوي على تناقض داخلي عميق، فإنه قد اعتبر أن التاريخ هو تطور وتجسيد للروح العالمية، ولهذا فقد كان عليه أن يتوصل في آخر المطاف إلى استنتاج يقول أن الناس لا يقومون بهذه الأعمال إلا من الناحية الظاهرية فقط، فأكد أن الخالق الحقيقي للتاريخ هو الروح العالمية، وأما الناس والشعوب فيعملون على تحقيق أهداف هذه الروح دون وعي أو معرفة، وهكذا يبدو الناس والشعوب لنا كآلات عمياء تنفذ إرادة الروح العالمية.

وخلافاً للمنورين والمثقفين الفرنسيين، الذين اعتبروا أن الإنسان يصنع تاريخه عن وعي ومعرفة، يصرح هيجل بما يلي: أن التاريخ الحقيقي يصنعه الناس دون وعي أو معرفة، وبالتالي فإنه يعمل على أحياء النظرة الدينية للتاريخ التي عبر عنها، حيث أن أفكاره هذه عن التطور التاريخي باطلة، ففي رأي هيجل أن التاريخ يتحول إلى عملية تجري بموجب العناية الآلهية، حيث كل حدث من الأحداث التاريخية كانت ارادة الله قد تنبأت به مسبقاً.

لقد انتقد كارل ماركس نظرات من هذا القبيل فكتب وهو يتهكم، التنبؤ والهدف المعروف مسبقاً بموجب العناية الآلهية، هذه هي الكلمات الرنانة التي يستعملها اليوم هؤلاء الفلاسفة لتفسير مسيرة التاريخ، حيث أن هذه الكلمات لا تفسر في الواقع شيئاً على الإطلاق.

ولاحظ ماركس أن بحث التاريخ من وجهة النظر هذه والتأكيد على أن القرون السابقة بكل ما كانت تحتوي عليه من احتياجات ووسائل للانتاج مختلفة ومتنوعة تماماً وغير ذلك كانت معروفة مسبقاً، ومعدة بفضل العناية لالهية للقرن الذي نعيش فيه بصورة خاصة، إن هذه المواقف تعني قلب الأمور رأساً على عقب، كما تعني تجاهل تلك الحركة التاريخية الحقيقية، التي اعادت الأجيال المختلفة من خلالها صياغة نتائج كانت الأجيال السابقة قد توصلت إليها.

لم تستطع ولا واحدة من النظريات الاجتماعية التي سبقت الماركسية أن تحل مسألة القوى الدافعة للتاريخ، لقد شخصت بعض من هذه النظريات الدور الرئيسي بأنه نشاطات الناس الواعية، واعتبر البعض الآخر منها أن التاريخ هو عملية عفوية وغير واعية، لقد ظلت هذه النظريات مثالية رغم الاختلاف بينها في حل هذه المسألة، وسدت الطريق المؤدي إلى معرفة قوانين الظواهر الاجتماعية، إن نظرية المادية التاريخية التي خلقها ماركس وهي وحدها التي اتاحت لنا معرفة قوانين تاريخ البشرية وإتقان ممارسة استخدامها.


شارك المقالة: