ما بين الخرافة والعلم

اقرأ في هذا المقال


سلك الإنسان طيلة التاريخ البشري طرقًا مختلفة في محاولاته لأن يفسر العالم من حوله، ولعل الأكثر شهرة بشكل مطلق الخرافة والأساطير والعلم، غير أنه وإن كان كل واحد منهما يهدف للأمر ذاته، ألا وهو تأويل الظواهر الطبيعية وصلتها بالإنسان، غير أنهما مختلفان تقريبًا في جميع الجوانب الأخرى وبشكل خاص في المنهجية المتبعة.

الإنسان والخرافة:

حين نلقي نظرة عامة على تاريخ البشر لوجدنا أن العلم ظاهرة حديثة، إذ أن الأسطورة كانت هي مرجع الإنسان الأول والأخير لكل تساؤلاته باختلاف المجتمعات التي عاش فيها لعشرات الآلاف من السنين، ففي جزء من تاريخ الإنسان الأكبر، نجد أنه فضّل عدم مواجهة الواقع بشكل مباشر، وأنه استعاض عنه بمخيلته لما في التصدي للواقع من مشقة وصعوبة، ولما تتطلبه من نضج فكري لم يملكه الإنسان في طفولته الفكرية يسمح بتقبل الوضع على ما هو عليه، وليس كما يتمناه الإنسان ويرغب.
الأسطورة “هي بناء خيالي من سرد وأفكار، يهدف إلى تفسير الظواهر الكونية أو الاجتماعية وتأسيس ممارسة اجتماعية وفقًا للقيم الأساسية للمجتمع”، كما أن الأساطير تحمل في أصولها تقليدًا شفهيًا في محاولات لأن يقدم تأويلات لجزء من الجوانب الأساسية في العالم أو في المجتمع الذي اخترع هذه الأساطير، على سبيل المثال نشأة الكون أو الظواهر الطبيعية وعلاقتها بالإنسان، أوعلاقته بالإله أو الآلهة.
تعود أسباب انتشار فكرة الأساطير إلى أنه كان يقدم تأويلًا متكاملًا وسهلًا للعالم، دون أن يبذل الأشخاص أي جهد أو أن يتقبلوا أي مكروه، لذلك فالفكر الأسطوري هو ميزة رئيسية للفكر غير الناضج في أزمنة الطفولة البشرية، وبهذا الشكل فقد بقي الإنسان فترة طويلة يستعيض عن العلم بخيالاته وانفعالاته، كما أنه لم يصطنع منهجًا يتيح له الاتصال المباشر بالواقع عن طريق الجمع بين العقل والتجربة إلا في مرحلة متأخرة جدًا من تاريخه.
للتفكير الخرافي ميزات وسمات مميزة تخالف سمات التفكير العلمي في الجملة والتفصيل، ولعل أهم مبدأ يستند عليه التفكير الخرافي هو مبدأ حيوية الطبيعة، والمقصود بهذا المبدأ هو أن التفكير الخرافي يعمل على صبغ الظواهر الطبيعية غير الحية بصبغة الحياة، بحيث تسلك هذه الظواهر كما لو كانت كائنات حية تفكر وتحس وتنفعل وتحب وتكره وتعاقب وتكافئ.

بإمكاننا رؤية هذا المبدأ في أساطير وخرافات كل شعوب العالم، فعلى سبيل المثال الفايكنغ اعتبروا أن الثور هو إله المطر، وأنه يسير في السماء بعربته ويضرب بمطرقته فيثير العواصف، كما اعتبرت شعوب هاواي أن ثوران البراكين هو غضب من الأرض عليهم، هنا نجد من صبغ المطر بصبغة الحياة وأنه جاء مكافأة لهم لأنهم أطاعوا الثور، بينما صبغ الآخرون الأرض بصبغة الحياة واعتبروا البراكين إعلانًا عن غضبها.

الخرافة والعلم:

غير أنه وبمقابل ذلك، فإن مطلب العلم هو تأويل الكائنات الحية عبر تحليلها إلى غير الحي، أي أنه يحاول أن يجد للظواهر الطبيعة تفسيرًا من خلال عمليات فيزيائية وكيميائية، حتى ولو كان يسعى إلى تفسير ظاهرة تحدث داخل كائن حي.
“التعليل الغائي” يأتي في الدرجة الثانية بعد حيوية الطبيعة كواحدة من أهم سمات “التفكير الخرافي”، والتعليل الغائي الذي هو تأويل ظاهرة من ظواهر الطبيعة من خلال الغايات التي تقوم هذه الظواهر بتحقيقها للبشر، فالشمس تطلع كل صباح لأجلنا نحن كي تنير لنا وتدفئ أجسامنا، والنجوم غايتها في الكون هي أن تهدي التائهين في الليل، والزلازل تحدث لتعاقب أناسًا ظالمين، ولعل من السهل أن ندرك أن التعليل الغائي هو امتداد لحيوية الطبيعة، فبعد أن صبغنا الطبيعة صبغة الحياة، تعاملنا معها كما لو كانت حية فعلًا ولها غايات تحققها من خلال ظواهرها المختلفة.
والواقع أن الطبيعة لا تعرف غايات بالمعنى الذي نفهم به هذا اللفظ، بل أن حوادث الطبيعة تحكمها الضرورة ولا يحدث شيء، كسقوط المطر أو وقوع الزلازل، إلا إذا توافرت الأسباب المؤدية إليه، وعندما تتوافر هذه الأسباب يكون حدوث الظاهرة أمرًا حتميًا، فالمطر يسقط على الأرض منذ مليارات السنين قبل البشر قبل أن يكون هناك زرع لهم، كما كانت الزلازل تحدث أيضًا لمليارات السنين قبل البشر ودون أن يكون هناك أناس ظالمون يستحقون العقاب.
كما كانت الشمس في مكانها قبل وجود كوكب الأرض، وفي الوقت الذي كانت الأرض فيه محترقة، وفي الوقت الذي سيطرت فيه الديناصورات على العالم، وقبل وجود إنسان. بعد ذلك أوجدنا الغايات واعتبرنا أن كل شيء في الكون يخدمنا ويعمل تحت إمرتنا.
غير أنه وبمقابل ذلك فاهتمام العلم ينصبّ على الأسباب الفاعلة والمؤثرة، وهي أسباب لا يحدث الشيء إلا إذا كانت متوفرة، وصار لزامًا أن يحدث الشيء إذا توفرت بهدف فهمها وتنبؤها في المستقبل والتحكم فيها إذا كان ذلك ممكنًا.

أنصار الخرافة:

أنصار الخرافة يدافعون عنها بشراسة، حيث أنه لما كان مستحيلًا لعاقل أن ينصر خرافاته بدحض العلم في الجملة والتفصيل، وفي هذا العصر بعد تغلغُل العلم وتعمُّقه في كل جوانب الحياة، بل أنه صار مستحيلًا أن يحيا إنسان دون أن يستفيد منه، لذلك يعمد هؤلاء إلى أن يظهروا نقصًا في العلم واعتباره دليلًا على صحة خرافتهم.
ومن أكثر الحجج شهرة في القول هي أن العلم يتطور في كل يوم، ولربما لم يتم اكتشاف صحة ذلك بعد من العلم، ولكن عندما تتطور أدواته سيؤكد صحة ما يقولون به، والحقيقة أن الحجة ضعيفة لسببين، أولهما: هو أن هذه الحجة تفتح الباب على مصراعيه لكل أنواع الخرافات والهراء، كالأبراج والتنجيم والبرمجة اللغوية العصبية وبول البعير لتصبح صحيحة، فلا يصبح للعلم قول في شيء سواء بصحة أو بخطأ وهو بالتأكيد ما لا يصح.

أما السبب الثاني والذي يتصف بالسذاجة حجتهم بأنه إذ لم يكتشف العلم، والذي هو أقوى الأدوات البشرية، مدى صحة تلك الخرافات لأن أساليبه لم تتطور بصورة كافية بعد، إذن كيف توصل أنصار الخرافات إلى صحتها؟ وكيف كانوا السابقين؟ وهم يدعون أنهم سبقوا العلم والعصر، والواقع أنهم ما سبقوا شيئًا بل هم توصلوا إلى صحتها وفق حدسهم وهواهم، أو بناءً على العادة والألفة وليس بناءً على أي شيء منهجي علمي ذو معنى.

لعل أنصار الخرافات يلجؤون حين تفشل دعواهم هو أن يربطوا خرافاتهم بالدين، بهدف وضع الدين دون داعٍ في مواجهة العلم، وبذلك يجد المرء المؤمن نفسه في حالة اضطراب بين عقيدته المتأصلة التي يؤمن بها ومنهج علمي يثبت صحته كل لحظة، وهو ما يوضح كيف أن ربط الخرافات بالدين يضر به ويضعه في مضمار تجريبي لا روحاني، وهو ما يجب أن يرفضه المتدينون قبل أن يرفضه العلماء.

في ختام الحديث عن العلم والخرافات، يجد المرء نفسه في مفترق طرق، هل يستمر في سبيل الأساطير والخرافات كما كان قبل عشرات الآلاف من السنين، أم يحمل المنهج العلمي وينضم إلى مصاف الدول التي حملته قبله ببضع قرون فأصبحت ما أصبحت عليه ونحن لم نتقدم خطوة، مفترق طرق، بين خرافة واهية الحجة وعلم ذو منطق أصول ونهج منطقي ويبقى الخيار لنا.

المصدر: الإنسان والخرافة،أحمد علي موسى،2003الخرافات هل تؤمن بها؟ سمير شيخانى، 2011- التفكير العلمي، د. فؤاد زكريا. الهيئة المصرية العامة للكتاب،2000فلسفة العلم،مارتن كورد،ترجمة دار النشر،2006


شارك المقالة: