مقتل أبي سلمة الخلال:
بالرغم من أن الخليفة أبا العباس قَبِلَ اعتذار الخلال، لكنه في حقيقة الأمر لم يغفر له ما فعله كما أثبتت الأحداث فيما بعد، فقد أمهله دون أن يهمله. تؤكد روايات تاريخية أنَّ أبي مسلم الخراساني هو الذي أشار على الخليفة بضرورة التخلص من الخلال، فيشير المسعودي أنّ أبا مسلم كتب إلى أبي العباس كتاباً، يشير فيه عليه بقتل أبي سلمة، ويقول فيه: (قد أحل الله لك دمه لأنه قد نكث وغير وبدل)، وكان رد أبي العباس في حينه: (ما كنت لأفتتح دولتي بقتل رجل من غير مسلم لا سيما مثل أبي سلمة، وهو صاحب الدعوة، وقد عرض نفسه، وبذل مهجته، وأنفق ماله، وناصح إمامه، وجاهد عدوه).
لقد كان أبو العباس بارعاً في رده على أبي مسلم؛ ولعله يريد أن يعرف أبا مسلم أنه ليس من شأنه أن ينتقم ممن أخلص للدعوة العباسية وبذل جهده للقيام بنصرتها، وأنفق ثروته العريضة من أجل الدعوة ونجاحها، في وقت كان فيه العباسيون في قلة من الأنصار والأعوان، ويبدو أن الخليفة برده هذا لم ينس أنَّ أبا سلمة كان له أنصار يغضبون له وقد يثورون من أجله.
ويشير المسعودي إلى أنّ أبا مسلم عندما رأى. أن أبا العباس لم يستجب لطلبه، كتب إلى أبي جعفر أخي أبي العباس، وإلى داود بن علي عمه، وطلب منهما أن يقابلا أبا العباس وأن يشيروا عليه بضرورة التخلص من أبي سلمة، لأنه أصبح خطراً على الخلافة والدولة معاً، أما أبو العباس فإنه رفض ذلك بقوله: (ما كنت لأفسد كثير إحسانه وعظيم بلائه، وصالح أيامه، بزلة كانت فيه وهي خطرة من خطرات الشيطان وغفلة من غفلات الإنسان).
ويبدو أن الخليفة أراد التريث في قتل أبي سلمة، أما رأي أبو جعفر المنصور وعمه داود ببن علي فكان الإسراع بتنفيذ الأمر، إذ أشارا على أبي العباس بذلك، ولكنه رفض الطلب معللاً رفضه بأنه قد يكون ما أشار به أبو مسلم خدعة سياسية، القصد منها تأليب قلوب الناس عليه، وأعلن الخليفة لأصحابه بأنه يرغب أن يكون قتل أبي سلمة على يد أبي مسلم نفسه، ويؤيد هذا ما ورد من قول اليعقوبي، وكره أبو العباس أن يوحش أبا مسلم بقتله أو يوجد سبيلاً إلى الاحتجاج به عليه.
كما عزم الخليفة على اتخاذ خطوة سياسة بارعة الهدف، فقد أراد أن يستوثق من أن أبا مسلم لم يكن له دخل فيما فعله أبو سلمة، ففي رواية تاريخية أنَّ جماعة كانوا يسمرون عند الخليفة، وقد ذكروا أموراً كثيرة: منها أمر انحراف الخلال، فقال أحدهم: (ما يدريكم لعل ما صنع أبو سلمة كان عن رأي أبي مسلم). فلم يتحكم أحد من الحاضرين، فقال الخليفة: (لئن كان هذا عن رأي أبي مسلم أنا ليعرض بلاء إلا أن يدفعه الله عنا).
وقد شاور الخليفة أخاه الأمير أبا جعفر عبد الله بن محمد، فقال له: ما ترى؟ فقال أبو جعفر: الرأي رأيك، فقال أبو العباس: (ليس منا أحد أخص بأبي مسلم منك فاخرج إليه حتى تعلم ما رأيه، فليس يخفى عليك، فلو قد لقيته، فإن كان عن رأيه أخذنا لأنفسنا، وإن لم يكن عن رأيه طابت أنفسنا). ويظهر من ذلك أن أبا العباس لم يجد أفضل من أخيه أبي جعفر ليوجه لحل هذه المشكلة، فاستدعاه وشاوره في الأمر.
وفي رواية للبلاذري تشير إلى أن أبا جعفر المنصور قال: دعاني أبو العباس فذاكرني أمر أبي سلمة، فقال: ما أدري لعل الذي كان منه عن رأي أبي مسلم ومالها غيرك، أخرج إلى أبي مسلم مهنئاً بما وهب الله لنا وينجح سعيه فيما قام به من أمرنا وأخذ البيعة عليه وأعلمه بما كان من أمر أبي سلمة واعرف رأيه، وعرفه الذي نحن عليه من شكره ومعرفة حقه، من ذلك يظهر أنَّ أبا العباس كان قد سند لأخيه أبي جعفر مهمتين الأولى أخذ البيعة على أبي مسلم ومن معه، والثانية لقاءه والتعرف على رأيه في قضية انحراف أبي سلمة الخلال وذلك ليضمن ولاءه أولاً، وليكشف في كوامن نفسه وليتعرف على موقفه ثانياً.
وحين استعد أبو جعفر للسفر إلى خراسان أرسل معه أبو العباس كتاباً لأبي مسلم جاء فيه: (أنه لم يزل عن رأي أمير المؤمنين وأهل بيته إلا إحسان إلى المحسن. والتجاوز عن المسيء، ما لم يفسد دينار وأنَّ أمير المؤمنين قد وهب جرم حفص بن سليمان لك، وترك إساءة إحسانك إن أحببت ذلك). ويبدو أنَّ باطن الكتاب كان حث أبي مسلم على قتل أبي سلمة، وفي رواية أخرى أنَّ أبا العباس شرح في الكتاب الذي أرسله إلى أبي مسلم ما جرى من أبي سلمة من سوء التصرف، ومن محاولته تأخير البيعة لأبي العباس وذلك من أجل صرف الخلافة للعلويين، ويقول البلاذري: (كتب أبو العباس إلى أبي مسلم يعلمه الذي كان من تدبيره في صرف الأمر عنه ونكث بيعة الإمام).
وفي أثناء رحلة أبي جعفر إلى خراسان، وجد أنه كلما مر بمدينة أحسن حاكم تلك المدينة استقباله، وجهزه سريعاً وودعه ليوصل رحلته إلى أبي مسلم، فازدادت شكوكه واشتد به الخوف ورأى أنه من الواجب أخذ الحيطة والحذر، فحين وصل أبو جعفر إلى الريّ طلب منه واليها أن لا يبقى في المدينة بأمر أبي مسلم وعليه أن يسرع للوصول إلى مرو، ولمّا وصل نيسابور، طلب منه واليها نفس الطلب مبرراً ذلك بأنه مكان غير آمن لكثرة الخوارج في الإقليم.
فلما كان على نحو فرسخين من مدينة مرو، حيث يقيم أبو مسلم، خرج أبو مسلم للقائه ومعه الكثير من أهل خراسان، ويقول المنصور: فلما دنا مني أقبل يمشي إليّ، حتى قبل يدي، فقلت: أركب، فركب فدخل مرو، فنزلت داراً فمكثت ثلاثة أيام، لا يسألني عن شيء، ويبدو من ذلك أنّ المنصور عاوده الخوف والحذر مرة أخرى، وفي اليوم الرابع ذهب أبو مسلم إلى الدار التي يقيم فيها أبو جعفر، وسأله: ما أقدمك؟ فأخبره؛ فقال: فعلها أبو سلمة أنا أكفيكموه.
ويشير ابن أعثم الكوفي إلى المحاورة التي جرت بين أبي جعفر وأبي مسلم، فيقول: (قال أبو جعفر لأبي مسلم: إنك اليوم منا بالمكان الذي علمت وإنا نشكو إليك أبا سلمة حفص بن سليمان فإنه قد شمخ بأنفه على أمير المؤمنين حتى أنه ما بعد الخلافة بشيء وأنه يعترض علينا اعتراضاً يجل عن الوصف، ولا والله ما يمنع أمير المؤمنين من الإساءة والوقوف عليه إلا عصبتك)، فتغير وجه أبي مسلم عند سماعه لهذا الكلام ثم قال: ما أنا أذنت لأمير المؤمنين، ولك فيه فاصنعا ما أحببتما فإنما أنا عبد من عبيد أمير المؤمنين، وأهل خراسان سامعون عبيد السمع والطاعة.
نهاية أبي سلمة الخلال:
من الجدير بالذكر أن أبا مسلم لمّا وصله كتاب الخليفة أبي العباس أجابه بكتاب يشير عليه فيه بقتل أبي سلمة، وقد جاء في الكتاب: (إنّ كان رأيك منه ريب فاضرب عنقه). ونتيجة لِمَا أشار به أبو مسلم على أبي العباس، نجد أم عم الخليفة داود ابن علي قد تراجع عن موقفه السابق، وقام بتوجيه النصح والإرشاد إلى الخليفة أبي العباس حيث قال له: (لا تتول قتله فتخبث نفس أبي مسلم ويحتج بذلك عليك، ولكن أكتب إليه فليوجه من يقتله). ويبدو أن الخليفة أبا العباس سمع نصيحة عمه له وأخذ بها، ففي رواية للبلاذري تشير إلى أن أبا العباس كتب لأبي مسلم: (أنت أولى بالحكم فيه فابعث إليه من يقتله).
ونتيجة لذلك وجه أبو مسلم مرار بن أنس الضبي لقتل أبي سلمة. وقد وصل مرار قبل ثلاثة أيام من قتله لأبي سلمة. أما أبو العباس فقد اتخذ خلال هذه المدة خطوة بارعة، حيث أرسل منادياً يُنادي بالكوفة: (إن أمير المؤمنين قد رضي عن أبي سلمة). ويبدو أن أبا العباس أراد أن يظهر للناس رضاه عن أبي سلمة واطمئنانه إليه حتى لا يتهم بقتله حين يُقتل، وحتى لا يغضب أنصاره فيتخذوا من قتله سبباً لوقوفهم من أبي العباس موقفاً عدائياً في وقت هو في أشد الحاجة إلى الاستقرار، ثم دعاه قبل مقتله بيوم، فخلع عليه، وكان يسمر عنده، فخرج ليلته تلك يريد الانصراف إلى منزله، وقد كمن له مرار بن أنس على طريقه، وقد كان من مرار جماعة من أصحابه فقتلوه، وكان ذلك في رجب سنة (132 هجري).