نموذج العلم الطبيعي في علم الاجتماع:
يعد هذا النموذج من أقدم النماذج التي قدمت لدراسة المجتمع، فقد أشار كونت قبل التوصل إلى مصطلح علم الاجتماع، إلى إمكانية قيام ميدان جديد للدراسة الاجتماعية، أطلق عليه علم الفيزياء الاجتماعية، وهناك العديد من علماء الاجتماع يحاولون التوصل إلى استنتاج بعض المبادئ السوسيولوجية التي تصاغ على غرار القانون الطبيعي، ومن أمثلة تلك المحاولات مبدأ القصور الذاتي الاجتماعي، الذي قدمه لنا بارسونز والذي ينص على ما يأتي تظل أية عملية من عمليات الفعل الاجتماعي ثابتة من حيث المعدل والاتجاه مالم تعوق أو تنحرف بفعل قوى دافعة معارضة.
وقد تبنى العديد من علماء الاجتماع وفي مقدمتهم جورج لندبرج وستيوارت دور، فكرة إمكان تطبيق منهج العلوم الطبيعية عند دراسة الحياة الاجتماعية، بهدف التوصل إلى القوانين التي تحكم حركة التفاعلات والعلاقات الاجتماعية.
فالعلم في نظر لندبرج سواء أكان طبيعياً أم اجتماعياً يعد وسيلة فنية للتوافق؛ ذلك ﻷن كل استقصاء يبدأ بتوتر معين في الكائن المستقصى، ويؤكد ذلك الباحث أن كافة الظواهر التي يهتم بها العلم تتكون من إنتقاء الطاقة أي الحركة، في العالم الطبيعي، وتأخذ كل حركة مكاناً في الزمن وتتم داخل موقف معين، وبناء على ذلك فإن موضوع العلوم الاجتماعية هو حركات الناس (سلوكهم)، التي تحدد مواضعهم داخل المواقف الاجتماعية، ويناقش الباحث المذكور قضايا التفاعل والاتصال الاجتماعيين في ضوء مفهوم الحركة أو السلوك.
فالتفاعل عبارة عن السلوك المتبادل بين عدة أفراد والاتصال هو استخدام الرموز الناجمة عن التفاعل، كذلك يمكن دراسة الاتصال من خلال الترابط والتفكك، أو الحركات التي تتم في اتجاه موقف معين أو بعيداً عنه، ويشبه هذا التفسير الحركي حركات الجذب والطرد داخل الذرة.
ويرفض لندبرج الإصلاحات التقليدية غير الدقيقة مثل الشعور والأهداف والقيم والدوافع، ويؤكد ضرورة استخدام التعريفات الإجرائية، فالظواهر الموضوعية في نظره، هي تلك التي يتطبق عليها مقاييس الاتفاق والتأييد والتنبؤ، فالمكان هو ما يمكن قياسه بأداة من أدوات القياس كالمتر والذكاء هو ما تقيسه اختبارات الذكاء ويرفض لندبرج كذلك التحليل الوظيفي للقيم، ويفضل دراستها على أنها الصور السلوكية المستمرة خلال مرحلة زمنية معينة، والواقع أن لندبرج بهذا الشكل هو خير ممثل للاتجاه السلوكي في علم الاجتماع.
قوانين سوسيولوجية في المجال الطبيعي:
وقد ظهرت عدة محاولات أخرى للتوصل إلى قوانين سوسيولوجية تشبه تلك التي يتوصل إليها الباحثون في المجال الطبيعي، فقد حاول دور كايم التوصل إلى القانون الذي يحكم ظاهرة الانتحار، وحاول المفكر دود أن يقدم لنا نظرية كمية أو رياضية في تفسير المجتمع أطلق عليها نظرية المواقف، فالموقف الاجتماعي يتألف من أربعة عناصر هي الزمان والمكان والسكان وخصائصهم المختلفة، وقد عرض هذا التصور في صورة معادلة رياضية، وهي أن الموقف يساوي السكان وخصائصهم والمكان والزمان، وتثير قضية إمكانية تطبيق المنهج العلمي المستخدم في العلوم الطبيعية في مجال دراسة المجتمع خلافاً كبيراً أو عميقاً بين المشتغلين بعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية.
ويزداد هذا الخلاف حدّةً عندما يحاول البعض تطبيق قوانين المكانيكا على المجتمع، ويمكن تفسير إصرار بعض الباحثين على الالتزام بالنموذج الطبيعي في الدراسات الاجتماعية، في ضوء نجاح العلوم الطبيعية في التوصل إلى قوانين مضبوطة أمكن بناء عليها التنبؤ بالظواهر والتحكم فيها بدرجة عالية من الدقة، وهكذا بدت العلوم التجريبية وكأن لديها المفتاح السحري القادر على تفسير كافة الظواهر بما في ذلك الظواهر الاجتماعية.
وقد دفع هؤلاء العلماء إلى اتخاذ ذلك الموقف، ضيقهم بالاضطراب في المفاهيم السوسيولوجية وغموض العلاقة بين مختلف الظواهر والمتغيرات الثقافية، وعدم دقة النتائج التي وصل إليها علماء الاجتماع بعد دراسات طويلة ومضنية، ويشير هؤلاء العلماء أنصار المنهج العلمي الطبيعي إلى أن علم الاجتماع يمكن أن يكون نسقاً نظرياً طالما أن غايته تفسير الحوادث والظواهر وفهم العلاقات الرابطة بينها والتوصل إلى القوانين التي تحكمها، كذلك فإن علم الاجتماع في نظرهم علم تجريبي حيث أنه لا يقوم على أساس تأمل نظري وإنما يقوم على أساس الملاحظة والتجربة.
فهم وتفسير الواقع الاجتماعي:
وإذا كان المقصود بنجاح العلوم الطبيعية، هو ما حققته من كفاءة مجال الفهم والتفسير والتنبؤ، فإن علم الاجتماع سوف لا يحقق نجاحاً ما لم يسهم في تزايد فهمنا للواقع الاجتماعي وتفسيره والوقوف على القوانين التي تحكمه والتنبؤ بالظواهر الاجتماعية، وإذا كان من الممكن العلم الفلك أن يتنبأ بظواهر الكسوف الخسوف، فلم لا يستطيع علم الاجتماع التنبؤ بالتغير الاجتماعي والثقافي وقيام الثورات وظواهر القيم والتحضر وتغير شكل الأسرة أو النظام الاقتصادي.