هل النظرية الحتمية نظرية اجتماعية أم نظرية تكنولوجية

اقرأ في هذا المقال


تنتشر في الفلسفة البرجوازية وفي علم الاجتماع البرجوازي أفكار نظرية الميكانيكا المبتذلة انتشاراً واسعاً، وذلك إلى جانب إنكار نظرية الحتمية ونفي قوانين تطور المجتمع، وليس من النادر أن تكتسب هذه الأفكار في ظروف الثورة العلمية شكلاً يسمى بنظرية الحتمية التكنولوجية.

هل النظرية الحتمية نظرية اجتماعية أم نظرية تكنولوجية

لقد حلت نظرية الحتمية التكنولوجية محل أشكال مختلفة أخرى من نظرية الحتمية، الحتمية الجغرافية والحتمية العرقية والحتمية الديموغرافية والحتمية المورفولوجية، وقد جاءت هذه التسميات في كتاب أساليب العلوم الاجتماعية.

إن الفكرة الأساسية لنظرية الحتمية التكنولوجية هي الاقرار بارتباط وحيد الجانب للمجتمع وبنيته الاجتماعية وآرائه وأفكاره بالتكنيك، وإن فكرة كارل ماركس عن أهمية أدوات العمل والتكنولوجيا في حياة المجتمع تنعكس في نظرية الحتمية التكنولوجية انعكاساً مشوهاً ومن جانب واحد.

فأولاً يفصل أنصار هذه النظرية الإنسان عن التكنيك، حتى أنهم يجعلوه على طرف نقيض منه، وليس من النادر أن يصلوا بالتكنيك إلى درجة التالية ويصورونه كقوة شيطانية تسيطر على الإنسان، إن هذا الموقف يتعارض جذرياً والماركسية، التي تقر بأهمية التكنيك العظيمة وتعتبر مع ذلك أن الإنسان هو القوة الانتاجية الرئيسية، وهي لا تبحث التكنيك بصورة منفصلة، بل تعتبره جزءاً من النظام الإنسان أدوات العمل أو كما يسمى اليوم الإنسان الماكنة.

وثانياً تجعل نظرية الحتمية التكنولوجية التكنيك قوة مستقلة وتفصل تطوره عن العلاقات الاقتصادية، ولهذا فهي تتجاهل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والقوى المحركة لتطور التكنيك نفسه، بينما يجري في الواقع تطور التكنيك والقوى الانتاجية على العموم في نطاق أساليب معينة للانتاج ويخضع لقوانينها الخاصة بها، ولذلك فإن هناك، حيث يرى أنصار نظرية الحتمية التكنولوجية ارتباط النظام الاجتماعي بالتكنيك بينهما، وليست العلاقات الاقتصادية ونظام إدارة الاقتصاد وحدها تؤثر تأثيراً مباشراً على تطور التكنيك، إنما هناك كذلك عوامل كثيرة سياسية ومعنوية تقوم بذلك بصورة غير مباشرة.

وثالثاً تتجاهل نظرية الحتمية التكنولوجية الفرق بين التقدم التكنيكي والتقدم الاجتماعي، وليس من النادر أن تضع بكل بساطة علامة مساواة بينهما، إن هذا القول يتيح للكثير من أنصار هذه النظرية الادعاء أن تطور التكنيك يجعل الثورة الاجتماعية ظاهرة لا حاجة لها، وأن الثورة العلمية والتكنيكية عملت على إلغائها في عصرنا الراهن، وهناك من يستخدم أفكار نظرية الحتمية التكنولوجية لترويج الأقوال عن التقارب بين النظامين الاجتماعيين والاقتصاديين المتضادين وامتزاجهما تحت ضغط التكنيك الحديث المشترك بينهما.

تفسيرات للترابط بيت التقدم العلمي والتقدم الاجتماعي

نجد في كتب علم الاجتماع البرجوازي الحديث تفسيرات مختلفة للترابط بين التقدم العلمي التكنيكي والتقدم الاجتماعي، هناك بهذا الصدد وجهات نظر مختلفة يمكننا أن نحصرها أساساً في موقفين متطرفين، فالموقف المتطرف الأول يضع علامة مساواة بين التقدم العلمي التكنيكي والتقدم الاجتماعي، وأما الموقف المتطرف الثاني فيضعهما على طرفي نقيض ويضع حدوداً فاصلة بينهما.

يفضي الموقف المتطرف الأول إلى الدفاع المباشر عن الرأسمالية وإعطاء تقديرات متفائلة عن مصيرها، وبهذا الصدد فإن المفكرين البرجوازيين لا يفرقون عادة بين مصير الرأسمالية ومصير البشرية على العموم، وهم حين يضعون علامة مساواة بين التقدم العلمي التكنيكي والتقدم الاجتماعي، يتجاهلون التاقضات الحقيقية للرأسمالية والمجتمع الذي لا مستقبل له في الواقع.

إن هذا الموقف الدفاعي تتميز به خاصة النظريات التي انتشرت على نطاق واسع في الخمسينات والستينات من قرننا الراهن، حيث أن نظريات التفاؤل البرجوازي هذه أخذت تتوارى، خاصة منذ أوائل السبعينات، فحلت محلها التكهنات التشاؤمية، وذلك تحت تأثير تعمق الأزمة العامة للرأسمالية، نذكر على سبيل المثال أن في التقرير الأول الذي أصدره نادي روما عام 1972 تحت عنوان حدود التطور جاءت فكرة فحواها أنه من الضروري إيصال تطور القوى المنتجة إلى الحدى الأدنى أو حتى إلى الصفر، أي إيقاف تطورها، وذلك نتيجة لنقص الموارد الطبيعية المتوفرة في العالم ومن أجل تجنب الأزمة العامة.

وكانت هناك أفكار، انتشرت على نطاق واسع وتعتبر من النظريات التشاؤمية الفريدة من نوعها، تقول بضرورة تركيز الجهود من أجل تحسين نوعية الحياة على حساب تقليص تطور الانتاج كمياً أو إيصاله إلى الحد الأدنى، غير أن التشاؤم الاجتماعي بدت كسابقاتها من نظريات مجتمع الرفاه العام، باطلة كأداة أيديولوجية للدفاع عن الرأسمالية، كما بدت أقل صلاحية للتأثير الأيديولوجي على البلدان النامية، بصفتها بديلاً فريداً للاتجاه الاشتراكي الذي يهتدي به كثير من هذه الأقطار.

فإذا كانت هناك ضرورة لوضع حدود للتطور في الأقطار الرأسمالية الراقية فما هي الأهداف التي ينبغي أن ترمي إليها الأقطار المختلفة في تطورها؟ فهل تسير إلى الأمام لتواجه حدوداً لتطورها؟ أنها لحقيقة لا يمكن نكرانها، وإن هذه الآفاق قلماً تجد من يستميل إليها.


شارك المقالة: