الاستقراء والذاتية والموضوعية في الفلسفة الشكية

اقرأ في هذا المقال


إنّ تاريخ الفلسفة الشكيّة الحديثة هو بحث نشط ومستمر قيد التقدم، حيث مرت اثنتان وأربعون وثلاثون عامًا على التوالي، منذ أن رأى العملان العظيمان اللذان أرسيا أسس النور للبحث العظيم لأول مرة (تاريخ الشكوكية بقلم ريتشارد بوبكين وشيشرون سيفتيكوس من تأليف تشارلز شميت)، والعكس تمامًا: الدراسات والمؤتمرات والأعمال الجماعية حول هذا الموضوع تتكاثر، بينما تمتد إعادة الإعمار التاريخي لتشمل شخصيات جديدة وفترات جديدة ومصادر جديدة.

الشك حول الاستقراء:

ترث المناقشات المعاصرة مشاكل طويلة الأمد من الفلسفة الحديثة المبكرة ومن بينها:

1- تشكك العالم الخارجي.

2- التشكيك في العقول الأخرى.

3- التشكيك في الاستقراء وهي بارزة بشكل خاص.

وعند تقييم الشكوكية القديمة قد نتساءل عما إذا كان القدماء قد رأوا هذه المشكلات، ومن بين المشاكل المتشككة في الفلسفة الحديثة تبرز الشكوك حول الاستقراء، فلا تعتمد صياغته المبكرة في دبفبد هيوم على فكرة أنّ ملكاتنا من صنع الله والذي خلق العالم أيضًا، ويأخذ هيوم نفسه للانخراط مع الشكوك البيرونية، حيث يبدأ الاستقراء من ملاحظات خاصة إلى استنتاج عام، كما يشير الشك حول الاستقراء إلى أنّه بغض النظر عن عدد التفاصيل التي تمت ملاحظتها فإنّ الادعاء العام يوضح أيضًا ما لم يتم ملاحظته.

في هذا الصدد يبدو الاستنتاج غير مبرر ولذا يجب علينا تعليق الحكم على فعاليته، ويمكن أن يتعلق الاستقراء بنسب الخصائص إلى نوع من الكيان بالإضافة إلى الادعاءات السببية، وفي الحالة الأخيرة يلاحظ المتشكك أنّ ما يسبق نوعًا ما بشكل منتظم قد لا يكون سببه، وربما لا يمكننا استنتاج أي شيء من حقيقة أنّ بعض الخصائص أو الأحداث تحدث بانتظام معًا.

يمكن تتبع الأفكار ذات الصلة في جوانب مختلفة من فلسفة سكستوس إمبيريكوس وهي:

1- أولاً يقف الفيلسوف سكستوس مع الميول المناهضة للعقلانية في الطب، ووفقًا لهذه المدارس يتذكر الطبيب أنّه في حالات سابقة تم تخفيف الأعراض (A) عن طريق الأدوية (B)، وهم لا يستنتجون أنّ الدواء (B) يجعل العَرَض (A) يختفي أو أنّ المرض (C) هو سبب العَرَض (A).

2- ثانيًا لا تستهدف الأنماط الخمسة الإثبات حصريًا، وإنّهم يعالجون كل شيء يضفي المصداقية على شيء آخر، وبالتالي يمكنهم أيضًا أن يطرحوا تساؤلات حول العلامات التي تؤخذ كدليل على أسبابها، فلا يقبل متشكك سكستوس مثل هذه الإشارات الإرشادية.

3- ثالثًا يناقش سكستوس دور ما يسمى بالإشارات التذكارية في حياة المشككين، على سبيل المثال الندبة هي علامة تذكارية للجرح، وكلاهما تمت ملاحظتهما في الماضي، والمتشكك سيفكر في الجرح عند رؤية الندبة، ولكنهم لا يلتزمون بالادعاءات السببية أو التفسيرية.

4- رابعًا يسجل سكستوس مجموعة من الأوضاع السببية والتي تستهدف على وجه التحديد التفسيرات السببية، كما إنّه لا ينسب إليها نوع الملاءمة التي تتمتع بها الأنماط العشرة والأنماط الخمسة، وفي الواقع يعتقد أنّ الأنماط الخمسة يمكن أن تؤدي عمل الأنماط السببية (أي تشكك في الأطروحات والنظريات السببية والتفسيرية)، ومع ذلك فإنّ الأنماط السببية تدخل في تفاصيل كثيرة حول كيفية قيام المشكك بالتحقيق في أي نوع من الأطروحة أو النظرية السببية

الذاتية والعقول الأخرى:

يعتبر التمييز بين الذاتية والموضوعية أمرًا محوريًا في المناقشات الحديثة حول الشك، ولم يتم تصوره في الفكر القديم ومع ذلك هذا لا يعني أنّ الفلاسفة القدماء لا يفكرون في الأسئلة ذات الصلة بهذا التمييز، ويمكن القول أنّ الفلسفة البيرونية تتصور عواطف العقل بطرق توقعت لاحقًا التفكير في الذاتية، كما يصف سكستوس حالات المشككين من الظهور وكأنّها عواطف للعقل.

كذلك يمكن للمتشككين الإبلاغ عن هذه الحالات في أقوالهم، ولتوضيح هذه النقطة يستخدم سكستوس التعبيرات المرتبطة بالقيروانية (أحد أتباع المدرسة القيرواني للفلسفة) وهي مدرسة فكرية سقراطية، والتي تعني هذه التعبيرات حرفيًا شيئًا مثل: “أنا أشعر بالحر الشديد” أو “أنا أبيض”، كما إنّهم يهدفون إلى تسجيل المشاعر دون المطالبة بأي شيء عن العالم.

يجادل فاين (Fine) بأنّ معتقدات المشككين هي معتقدات حول هذه المشاعر، ومن خلال هذا الاقتراح ينقلب فاين على موقفين بارزين في الجدل الأكاديمي حول الاعتقاد المتشكك وهما:

1- أولًا أنّ المشككين ليس لديهم معتقدات على الإطلاق.

2- ثانيًا أنّ المشككين لديهم معتقدات لا تصدق.

وهنا فاين يتصور معتقدات عاكسة أي معتقدات حول الحالة العقلية للفرد. سواء كان حساب سكستوس للحياة العقلية للمشككين يتضمن معتقدات انعكاسية حول الحالات العقلية للفرد أم لا فإنّه يجب أن نلاحظ اختلافًا مهمًا في المقترحات اللاحقة من هذا النوع، حيث يركز الفلاسفة اللاحقون على نوع معين من اليقين المرتبط بالمعرفة الانعكاسية، ويُنظر إلى المعرفة الانعكاسية أحيانًا على أنّها نقطة انطلاق نحو ثقة أكبر في قوانا المعرفية وقدرتنا أيضًا على تحقيق أنواع أخرى من المعرفة.

ولكن قد لا يكون من الواضح أنّ المعرفة الانعكاسية يمكن أن تأخذ هذا الدور المهم، وفي هذا الصدد لا يزال أوغسطين أقرب إلى القديم منه إلى الحدس الحديث، ويقول إنّ مثل هذه القطع من المعرفة مثل عبارة: “أعلم أنني أعتقد” ليست ما نبحث عنه، ويتصور أوغسطين أنّه يمكن تكرار ادعاءات المعرفة العاكسة، بحيث يكون لدينا عدد لا نهائي من أجزاء المعرفة (“أعلم أنني أعلم أنني أعتقد …”)، ولكن من وجهة نظره فإنّ هذا النوع من المعرفة لا يقود إلى أي مكان، وعندما نسأل عما إذا كان بإمكاننا الحصول على المعرفة فإننا مهتمون بمعرفة العالم والله.

يولي الفلاسفة المعاصرون أيضًا اهتمامًا كبيرًا بامتياز الوصول إلى المعرفين لأنشطتهم المعرفية، ويقدم أوغسطين تمييزًا يمهد الطريق لهذه الفكرة، كما يجادل بأنّ العقل لا يستطيع معرفة نوع الأشياء، فالعقل لا يعرف جوهره لكنه يعرف نشاطاته، وبالنسبة لأوغسطين هذا يعني أنّ العقل يعرف نفسه، والذهن هو بالضبط ما يعرف نفسه أنّه: بمعرفة أنّ المرء يفكر ويحكم ويعيش وما إلى ذلك فإنّه يعرف العقل، ومن الملاحظ أنّ هذه الحجة تشير إلى أنّ معرفة أنّ المرء يعيش وليس جزءًا من المعرفة حول الوجود الجسدي ولكن عن أنشطة العقل.

أخيرًا يتصور الفلاسفة المعاصرون نوعًا خاصًا من الوصول إلى عقل المرء ليس فقط على النقيض من وصولنا إلى العالم، ويقارنونها أيضًا بوصولنا إلى ما يدور في عقول أخرى، وواحدة من مشاكلهم الأساسية هي الشك في العقول الأخرى، وإذا كانت عقولنا متاحة لنا بالطريقة التي لا يمكن الوصول إليها بأي شيء آخر فقد لا نكون قادرين على إسناد الحالات العقلية للآخرين.

على سبيل المثال قد لا نعرف أنّ الشخص الذي يبدو وكأنه يتألم هو بالفعل يشعر بالألم، ولا يتصور المشككون القدامى شيئًا من هذا القبيل، كما يشير هذا إلى أنّه بقدر ما يميزون بين مشاعر العقل والعالم فإنّ هذا التمييز يفسر بشكل مختلف عن الشك الحديث.

المصدر: Ancient Greek SkepticismAncient SkepticismSkepticismAnnas, J., (1996), “Scepticism, Old and New,” in M. Frede and G. Striker, eds., Rationality in Greek Thought, (Oxford: Clarendon).Barnes, J. (1990), The Toils of Scepticism, (Cambridge: Cambridge University Press).


شارك المقالة: