فلسفة بنيامين بين الرومانسية وفكر الفيلسوف جوته

اقرأ في هذا المقال


سعى الفيلسوف والتر بنيامين في البداية إلى تطوير أفكار في سياق فلسفة التاريخ للفيلسوف إيمانويل كانط، معتقدًا أنّه في هذا السياق يمكن كشف مشاكل النظام الكانطي والتحدي بالكامل.

فلسفة بنيامين والجماليات الرومانسية:

تعتبر المقالة المبكرة جدًا التي حملت عنوان حياة الطلاب في عام 1915 (Das Leben der Studenten) مفيدة في اقتراح كيفية إظهار هذه المشكلات في فلسفة التاريخ، حيث إنّها ترفض وجهة نظر التاريخ التي تضع إيمانها في المدى اللامتناهي للوقت، وبالتالي لا تهتم إلّا بالسرعة أو الافتقار إليها التي يتقدم بها الناس والعهود على طريق التقدم،  وتناقض ذلك مع منظور حيث يبدو أنّ التاريخ يركز على نقطة محورية واحدة، مثل تلك التي تم العثور عليها تقليديًا في الصور الطوباوية للفلاسفة.

النظرة الأخيرة عى عمله (مسيانية) للتاريخ لها نية ومنهجية مميزة: فهي تهدف إلى فهم كيف أنّ عناصر ما يسميه بنيامين الحالة النهائية وأعلى حالة ميتافيزيقية للتاريخ -والتي قد نسميها المطلق التاريخي- لا تظهر كهدف أو نهاية للتاريخ، ولكن كحالة جوهرية من الكمال التي لديها القدرة على إظهار نفسها في أي لحظة معينة، وهو يدعي أنّ الاعتراف الضروري بمثل هذه الحالة الميتافيزيقية يتطلب فعل نقد (كريتيك).

اقترح بنيامين في البداية فلسفة كانط للتاريخ كموضوع لأطروحة الدكتوراه الخاصة به، وبينما شعر أنّه من الضروري تغيير هذا إلى فلسفة الفن الرومانسيين الألمان الأوائل، بقيت السمات الحاسمة للمشروع المقترح في العمل النهائي.

يقول بنيامين بأنّ القراء المخضرمين ربما لا يزالون يميزون فيه نظرة ثاقبة لعلاقة الحقيقة بالتاريخ، وعلى وجه التحديد يستند مفهوم النقد الفني الذي يعمل في الجماليات الرومانسية على الافتراضات المعرفية التي تكشف الجوهر المسيحاني للرومانسية، ويُنظر هنا إلى الارتباط المسيحي بين أعلى حالة ميتافيزيقية في التاريخ والزمن الزائل لكل لحظة بعينها على أنّه يحدد نظريًا العلاقة الرومانسية بين المطلق الفني -أو ما يعرفه بنيامين على أنّه فكرة الفن- وكل عمل فني معين.

في رسالته للدكتوراه يجادل بنيامين بأنّ العلاقة الفلسفية بين فكرة الفن والأعمال الفنية المعينة المطروحة في الجماليات الرومانسية يجب أن تُفهم فيما يتعلق بنظرية فيشته للتأمل، حيث سعى هذا إلى تأسيس إمكانية وجود نوع معين وفوري من الإدراك دون اللجوء إلى الفكرة الإشكالية للحدس الفكري، وبالنسبة إلى فيشته يشير الانعكاس إلى النشاط الحر للوعي الذي يأخذ نفسه على أنّه موضوع تفكيره أي قدرته على التفكير في التفكير، وبذلك يتحول الشكل الأولي للتفكير إلى محتواه.

في مثل هذا التفكير يبدو الفكر قادرًا على استيعاب نفسه على الفور كموضوع تفكير وبالتالي امتلاك نوع معين من المعرفة الفورية والتأسيسية، وعلى الرغم من أنّ بنيامين يقدم عددًا من الانتقادات المحددة لموقف فيشته الفلسفي في أطروحته، فإنّه مع ذلك يقدر مفهوم فيشتين للتفكير لتوفير الأساس المعرفي لفهم فريدريك شليغل ونوفاليس للوظيفة الميتافيزيقية للنقد الفني، ومع ذلك شكك بعض العلماء في دقة تفسير بنيامين لمفهوم فيشتي للتفكير والأهمية التي يوليها له في نظرية المعرفة الرومانسية.

على عكس فيشته هنا الفورية واللانهائية ليستا جوانب متعارضة من الإدراك، ويكمن تفرد المفهوم الرومانسي للمطلق في حقيقة أنّ المفهوم الرومانسي لللامتناهي لا يعتبره فارغًا ولكنه جوهري وممتلئ، وقد جادل بنيامين بأنّ الرومانسيين حددوا على وجه التحديد بنية المطلق هذه مع فكرة الفن وعلى وجه الخصوص مع الشكل الفني.

يصبح النقد الفني مركزيًا لمفهوم الإنجاز اللامتناهي هذا لأنّه مثل العلاقة المعرفية بين التفكير والفكر في فيشته، يُكمل النقد العمل المحدود والخاص من خلال رفعه إلى مستوى أعلى -حيث يتم تحويل شكل العمل إلى محتوى كموضوع للنقد- وفي نفس الوقت يربط الشكل الفني للعمل مع استمرارية ووحدة الشكل المطلق في فكرة الفن، فالنقد بالنسبة للرومانسيين هو استمرار واستكمال العمل المعين من خلال ارتباطه اللامحدود مع الأعمال الفنية الأخرى والأعمال النقدية.

من خلال تصور فكرة الفن على أنّه وسيلة للتفكير فإنّ الرومانسيين الأوائل يحلوا النظرة العالمية لعالم التنوير للعلوم الإيجابية التي ورثها فيشته عن كانط، وبذلك تغلبوا على الأوامر النقدية الموضوعة على تجربة اللانهائية، ويشكل هذا المفهوم عن اللانهاية المكتملة المسيحية التي يدّعي بنيامين أنّها ضرورية لنظرية المعرفة الرومانسية المبكرة.

في نسخة الأطروحة المقدمة رسميًا إلى الجامعة يختتم بنيامين بتحديد النظرية الرومانسية للنقد الفني مع اكتمال العمل، حبث يوفر العمل الفني المعيار الجوهري للتفكير النقدي، والذي بدوره يكمل العمل برفعه إلى وجود مستقل وأعلى، كما يرفض هذا النقد الجوهري كلاً من الفرض العقائدي للقواعد الخارجية (مثل تلك الخاصة بعلم الجمال الكلاسيكي) وتفكك المعايير الجمالية (مع جاذبية العبقرية الفنية)، وإنّه يوفر حسب اعتقاد بنيامين أحد الموروثات الأساسية لمفهوم حديث للنقد الفني.

لا تنتهي النسخة التي تم تداولها بين الأصدقاء والزملاء بتأكيد كامل للرومانسية، ولكنها تحتوي على خاتمة نقدية توضح الاعتراضات النقدية التي أدخلها بنيامين بعناية في النص، ويقترح هؤلاء أنّ النظرية الرومانسية للفن ومن ثم فإنّ بنية المطلق التي ترتكز عليها، هي نظرية أحادية الجانب وغير كاملة فيما يتعلق بالإشكالية من حيث:

1- شكليتها.

2- إيجابيتها.

3- تفردها.

نظرًا لأنّ محتوى كل مستوى من مستويات الانعكاس المتتالي يتم توفيره من خلال شكل موضوعه، فإنّ النقد يكشف عن جرثومة النقد الجوهري الموجود في شكل كل عمل فني معين، وتمنع هذه الشكليات أي مناقشة جادة لمحتوى العمل الفني المحدد، وفي المقابل أي شيء لا يمكن نقده بشكل جوهري لا يمكن أن يشكل عملاً فنياً حقيقياً، ونتيجة لذلك لا يستطيع النقد الرومانسي التفريق بين الأعمال الفنية الجيدة أو السيئة، لأنّ معياره الوحيد هو ما إذا كان العمل فنًا أم لا، ومثل هذا النقد إيجابي تمامًا في تقييمه ويفتقر إلى اللحظة السلبية المهمة الأساسية للحكم.

أخيرًا إن ارتكب شليغل الخطأ القديم المتمثل في الخلط بين التجريدي والعالمي، وذلك عندما اعتقد أنّه كان عليه أن يجعل هذا الأساس المطلق للفن فردًا كما يدعي بنيامين، لذلك قدم تفسيرًا خاطئًا لوحدة جميع الأعمال عندما تصور أنّ هذا يتعلق ببعض الأعمال الصوفية والفردية والمتسامية.

الفلسفة بين فكر بنيامين وفكر جوته:

تم توضيح الحاجة اللاحقة لما يقدمه بنيامين كتغيير جوثيان للرومانسية الألمانية المبكرة في الكلمة الختامية، وتم اقتراح العلاقة بين هذه الانتقادات للرومانسية وفكر الفيلسوف يوهان فولفغانغ فون جوته في الادعاء القائل بأنّ الأطروحة الصوفية القائلة بأنّ الفن نفسه هو عمل واحد، بحيث تقف في ارتباط دقيق مع المبدأ الذي يؤكد عدم قابلية الأعمال التي يتم تنقيتها في السخرية للتدمير، وبتأكيدها الخاطئ على تفرد فكرة الفن فإنّ الإنجاز الرومانسي يتزامن فقط مع اللانهاية من غير المشروط، مما يعني أنّ الإنجاز هو في الأساس فئة غير تاريخية من اللانهائي.

لا يمكن وصف هذا النقد بأنّه حكم لأنّ كل حكم حقيقي يتضمن لحظة سلبية جوهرية من الاكتمال في إبادة الذات، وبالتالي نظرًا لأنّ المسيحانية الرومانسية لا تعمل بكامل قوتها هنا، فقد اضطر الرومانسيون بشكل متزايد إلى اللجوء إلى أدوات الأخلاق والدين والسياسة لتوفير المحتوى المطلوب لإكمال نظريتهم في الفن.

المصدر: Walter BenjaminEiland, H. and Jennings, M. W., Walter Benjamin: A Critical Life, Cambridge, MA. & London: Harvard University Press, 2014.Brodersen, M., 1996, Walter Benjamin: A Biography, London & New York: Verso.Benjamin, A. and Osborne, P. (eds.), 1994/2000, Walter Benjamin’s Philosophy: Destruction and Experience, London & New York: Routledge/Manchester: Clinamen Press.


شارك المقالة: