إنَّ علم استنباط الأحكام الشرعية هو علمٌ خرج من علم أصول الفقه، فيجب على المتخصص في هذه العلوم لاستنباط الأحكام أن يكون على علم وافي وكافي للغة العربية، وأن يعرف أساليبها ومداخلها ومخارجها وشواذها؛ حتى يستطيع ربط النصوص بعضها ببعض سواء كانت بالقرآن الكريم أو بالحديث النبوي الشريف، والاستنباط يتوقف على أمور كثيرة يجب معرفتها من أهمها المطلق والمقيد.
المطلق والمقيد
المطلق في اللغة: من الإطلاق، يعني الإرسال أي الغير مقيد وهو الحر الطليق.
وفي الاصطلاح: هو ما يدل على شيء حقيقي بعينه دون تقييده كحكم كفارة الظهار في قوله تعالى: “وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا” (سورة المجادلة: 3)، فنص الآية هو فك قيد عبد أو إنسان مملوك سواء كان مؤمناً أم كافراً هذا العبد أو المملوك، وقد ذكر المطلق في كثير من نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف كقوله صلى الله عليه وسلم: “لا نكاح إلا بولي” فهنا لم يقيد النبي الولي بشرط أن يكون راشداً أم غير راشد ولكن فقط وجوب وجود الولي.
وحكم المطلق أنه إذا ورد نصه في القرآن الكريم مطلقاً فيجب العمل به، فقد ورد ذكر المطلق في القرآن الكريم للعمل به في كل المواطن ولا يجب تقييده في مواطن أخرى كقوله تعالى: “وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ” (سورة النساء: 23)، ففي هذا الموضع جاء تحريم نكاح أم الزوجة مطلقاً ولم يقيد بدخول أم بغير دخول، كما في تقييد تحريم نكاح الربيبة -وهي بنت الزوجة- بالدخول على أمها أي أنه إن لم يدخل بها فيجوز الزواج منها في قوله تعالى: “وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ” (سورة النساء: 23).
وأما المقيد في اللغة: هو غير الحُر وهو مقابل المطلق.
وفي الاصطلاح: المقيد هو عكس المطلق، وهو ما يدل على حقيقة شيء لكن بقيد كما ورد في تقييد تحرير الرقبة في قتل الإنسان المؤمن بأن تكون رقبة مؤمنة كما في قوله تعالى: “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ” (سورة النساء: 92).
وحكم المقيد أنه إذا جاء مقيداً في القرآن الكريم فمن الواجب العمل به على تقييده وامثلة ذلك ما جاء في تقييد الصيام بالتتابع في كفارة الظهار أو القتل الخطأ في قوله تعالى: “فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ” والتي ورد ذكرها في موضعين في القرآن الكريم في (سورة المجادلة :4)، و(سورة النساء: 92)، ففي هذا ذكر للتابع الصيام فمن جزأ الصيام ولم يتابعه بشهرين كاملين لم يجزِ ذلك.
أقسام المطلق والمقيد في القرآن
يقسم المطلق والمقيد إلى عدة أقسام وهي:
أولاً: أن يكون حكم المطلق والمقيد متحد، وأن يتحد سببهما، كما في كفارة اليمين وهي الصيام قال تعالى: “فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ”(سورة المائدة: 89)، فقد جاء الصيام مطلقاً بأنه ثلاثة أيام ولم يقيد بأن تكون متتابعات، ولكن في قراءة أُبي بن كعب وعبد الله بن مسعود: “فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ” وبذلك حُمل المطلق على المقيد لأن سببهما واحد وهو كفارة لليمين، ونظراً لأن القراءة غير متواترة فلا يوجد هنا مقيد.
ثانياً: اتحاد السبب واختلاف الحكم، كما جاء في غسل الأيدي في الوضوء وفي التيمم، فالسبب هو إزالة الحدث والطهارة، ولكن حكمه في الوضوء جاء مختلفاً عن حكمه في التيمم، قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ” (سورة المائدة: 6)، فهنا تقييد غسيل الأيدي إلى المرافق في الوضوء، وأما في التيمم فقد جاء مسح الأيدي مطلقاً كما قال تعالى: “فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ” (سورة المائدة: 6).
ثالثاً: أن يكون السبب مختلفاً والحكم متحداً، كما في عتق الرقبة في الكفارة، فقد ورد أن تكون مؤمنة في القتل الخطأ قال تعالى: “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ” (سورة النساء: 92)، وجاءت الرقبة في كفارة الظهار مطلقة كما قال تعالى: “وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا” (سورة المجادلة: 3).
وكما جاء في كفارة اليمين أيضاً مطلقاً قال تعالى: “لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ” (سورة المائدة: 89)، فقال بعض المالكية وكثير من الشافعية أنه لا تجوز الرقبة الكافرة في الظهار، أما الأحناف فقالوا لا يُحمل المطلق على المقيد إلا بدليل فيجوز عتق الرقبة الكافرة في الظهار واليمين.
رابعاً: أن يكون الحكم والسبب مختلفاً: كما جاء في اليد في الوضوء والسرقة، فقد تم تقييدها في الوضوء بأنه للمرافق كما في قوله تعالى: “فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ” (سورة المائدة: 6)، وأما في السرقة فلم يقيد فجاءت مطلقة كما في قوله تعالى: “وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا” (سورة المائدة: 38).
في الختام إنَّ الله سبحانه وتعالى خاطبنا في القرآن الكريم بلغة العرب، فقد قال في ذلك صاحب كتاب البرهان: “إن وجد دليل على تقييد المطلق صير إليه، وإلا فلا”، فيبقى المطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده، والقرآن الكريم كتاب منزه عن الخطأ وما جاء فيه ما هو إلا لحِكمَة بالغة، فإن لم تكن متعلماً أو عالماً بكتاب الله وبأساليبه فيجب أن تتجنب الخوض فيه، حتى لا تقع في المحظور لا قدر الله.