صلاة أهل الأعذار

اقرأ في هذا المقال


أهل الاعذار: هم المر ضى والمسافرون والخائفون الذین لا یتمكَّنون من أداء الصلاة على الصِّفة التي یؤدِّیها غیر المعذور، فقد خفَّف الشارع عنهم، وطلب منهم أن یصلُّوا حسب استطاعتهم، وهذا من یُسر هذه الشریعةِ وسماحتها، فقد جاءت برفع الحرج .
قال االله تعالى:(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ)” الحج 78″ .
وقال تعالى:( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) “البقرة185” .

كيف يصلي من قام به عذرمن مرض أوخوف أو سفر؟

أولاً: صلاة عذر المريض: إنَّ الصلاة لا تُترك أبداً، فالمریضُ یلزمهُ أن یؤدّي الصلاة قائماً، وإن احتاج إلى الاعتماد على عصاً ونحوهُ في قيامه فلا بأس بذلك؛ لأنّ ما لا يتم الواجب إلَّا به فهو واجب.
فإنّ لم يستطع المريض القيام في الصلاة، بأنّ عجز عنهُ أو شقَّ عليهِ أو خيف من قيامه زيادة مرض، فالحالة هنا بأنّ يصلي قاعداً .
ولا يشترط لإباحة القعود في الصلاة تعذُّر القيام، ولا يكفي لذلك أدنى مشقّةٍ بل المعتبر المشقّة الظاهرة.
وقد أجمع العلماء على أنّ من عجِزَ القيام في الفريضة، صلّاها قاعداً ولا إعادة عليه، ولا ينقص ثوابه وتكون هيئة جلوسه حسب مايسهل عليه؛ لأنّ الشارع لم يطلب منه قعدةً خاصةً فيها، فكيما قعد فقد جاز.
فإن لم یستطع المریض الصلاة قاعداً، وشق علیهِ الجلوس مشقّة ظاهرة أو عجزعنه، فإنه یصلي على جنبه ویكون وجهه إلى القبلة، والأفضل أن یكون على جنبه الأیمن، وإن لم يكن عنده من يوجّهه إلى القبلة، ولم يستطع التوجّه إليها بنفسه، صلّى على حسب حاله، إلى أي جهةٍ تسهلُ عليه.
فإن لم یقدر المریض أن یصلي على جنبه، تعین علیه أن یصلي على ظهرهِ، وتكون رجلاه إلى القبلة مع الإمكان.
وإن صلّى المريض قاعداً، ولم يستطيع الجلوس على الأرض، أو صلّى على جنبه أو على ظهره كما سبق فإنه یوميء برأسه للركوع والسجود، ویجعل الإیماء للسجود أخفض من الإیماء للركوع، وإذا صلّى المريض جالساً وهو يستطيع السجود على الأرض وجب عليه وذلك ولا يكفيه الإيماء.
الدلیل على جواز صلاة المریض على الكیفیة المفصلة ما أخرجه البخاري وأهل السنن من حدیث عمران بن حصین ــ رضي الله عنه ــ قال: كانت بي بواسير، فسألت النبيّ ــ صلّى الله عليه وسلم ــ فقال: (صلّ قائماً،فإنّ لم نستطع فصلّ قاعداً، فإنّ لم تستطع فصلّ على جنبك، فإنّ لم تستطع فمستلقياً)” فلا يُكلّف الله نفساً إلّا وسعها” .
وهنا یجب التنبیه على أنَّ ما یفعلهُ بعض المرضى، ومن تجرى لهم عملیّات جراحیة، فیتركون الصلاة بحجّة أنهم لا یقدرون على أداء الصلاة بصفة كاملة، أو لا یقدرون على الوضوء، أو لأنَّ ملابسهم نجسة، أو غیر ذلك من الأعذار، وهذا خطأ كبیر، لأنّ المسلم لا یجوز له ترك الصلاة إذا عجز عن بعض شروطها أو أركانها وواجباتها، بل یصلیها على حسب حاله .فقال الله تعالى:( فاتّقُوا االله مااسَتطعتُم)”التغابن 16″ .
وبعض المرضى یقول: إذا شفیتُ، قضیتُ الصلوات التي تركتها، وهذا جهل منهم أوتساهل، فالصلاة تصلّى في وقتها فینبغي الانتباه لهذا والتنبیه علیه، ویجب أن یكون في المستشفیات توعیة دینیة وتفقّد لأحوال المرضى من ناحیة الصلاة وغیرها من الواجبات الشرعية التي هم بحاجةٍ إلى بیانها .
وما سبق بیانه هو في حقِّ من ابتدأ الصلاة معذوراً، واستمرَّ بهِ العذر إلى الفراغ منها، وأمّا من ابتدأها وهو یقدر على القیام، ثمّ طرأ علیه العجز عنها، أو ابتدأها وهو لا یستطیع القیام، ثم قدر علیها في أثنائها، أو ابتدأها قاعداً، ثم عجز عن القعود في أثنائها، أو ابتدأها على جنب، ثم قدر على القعود فإنه في تلك الأحوال یُنتقل إلى الحالة المناسبة له شرعا ويتمّها عليها وجوباً، لقوله تعالى:( فاتّقُوا الله ما استَطَعتُم)” التغابن16″ .
فینتقل إلى القیام من قدرعلیه، وینتقل إلى الجلوس من عجزعن القیام في أثناء الصلاة.
ومقام الصلاة في الإسلام عظیم فیطلب من المسلم، بل یتحتّم علیه أن یقیمها في حال الصّحّة وحال المرض، فلا تسقط عن المریض لكنّهُ یصلیها على حسب حاله، فیجب على المسلم أن یحافظ علیها كما أمره االله.

ثانياً: عذر صلاة الراكب: ومن أهل الأعذار الراكب، إذا كان یتأذّى بنزوله للصلاة على الأرض بوحل أو مطر، أو يعجز عن الركوب إذا نزل، أو یخشى فوات رفقته إذا نزل، أو یخاف على نفسه إذا نزل من عدو أو سبع، ففي هذه الأحوال یصلي على مركوبهِ، من دابةٍ وغیرها، ولا ینزل إلى الأرض، لحدیث یعلى بن مرَّة: (أن النبي صلّى الله عليه وسلم انتهى إلى مضیق هو وأصحابه، وهو على راحلته، والسماء من فوقهم، والبلة من أسفل منهم، فحضرت الصلاة، فأمر المؤذن فأذن وأقام، ثم تقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم على راحلته فصلى بهم یومئ إیماء یجعل السجود أخفض من الركوع)” رواه أحمد والترمذي” .
ویجب على من یصلي الفریضة على مركوبهِ لعذر ممّا سبق أن یستقبل القبلة إن استطاع لقوله تعالى:(وحيثُّ ماكُنتُم فَولّوا وجُوهَكُم شَطرَهُ)”البقره 144″.
ویجب علیه فعل ما یقدر علیه من ركوع وسجود وإيماءٍ بهما وطمأنينية، لقوله تعالى:(فاتّقوا الله مااستطعتم)” التغابن16″ .
وما لا یقدر علیه لا يكلف به، وإن لم يقدر على استقبال القبلة لم يجب عليه استقبالها، ويصلى على حسب حالهِ، وكذلك راكب الطائرة يصلّي فيها بحسب استطاعته من قيام وقعود وركوع وسجود أو إیماء بهما بحسب استطاعته، مع استقبال القبلة، لأنّه مُمكن .

ثالثاً: عذر صلاة المسافر: ومن أهل الأعذار المسافر، فیشرع لهُ قصر الصلاة الرباعیة من أربع إلى ركعتین، كما دلّ على ذلك الكتاب، والسّنة والإجماع .
فقال تعالى:(  وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا)” النساء101″ .
والنبي لم یصلّي في السفرإلّا قصراً، والقصر أفضلُ من الإتمام في رأي جمهور العلماء، وفي الصحیحین: فرضتِ الصلاة ركعتین ركعتین، فأقّرت صلاة السفر، وزِیدَ في صلاة الحضر، وقال ابن عمر: ( صلاة السفر ركعتان تمام غیر قصر) .
ویبدأ القصر بخروج المسافر من بلدهِ؛ لأنَّ االله أباح القصر لمن ضرب في الأرض، وقبل خروجه من بلدهِ لا یكون ضارباً في الأرض ولا مسافرا إنّما كان قصراً، ولأنَّ النبي ــ صلّى الله عليه وسلم ــ كان يقصرِ إذا ارتحل، ولأنّ لفظ السفر معناه الإسفار؛ أي الخروج إلى الصحراء، ویقال: سفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته، فإذا لم یبرز إلى الصحراء التي ینكشف فیها من بین المساكن لم یكن مسافراً.
ویقصر المسافر الصلاة ولو كان یتكرّر سفره كصاحب البرید، وسیارة الأجرة ممّن یتردّد أكثر وقته في الطریق بین البلدان .
ویجوز للمسافر الجمع بین الظهر والعصر، والجمع بین المغرب والعشاء في وقتِ أحدهما، فكلّ مسافر یجوز له القصر، فإنّه یجوز له الجمع وهو رخصة عارضة یفعلها عند الحاجة كما إذا جدَّ به السیر؛ لما روى معاذ رضي االله عنه:( أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زیغ الشمس، أخر الظهر حتى یجمعهما إلى العصر ویصلیهما جمیعاً وإذا ارتحل بعد زیغ الشمس صلى الظهر والعصر جمیعاً ثم سار وكان یفعل مثل ذلك في المغرب والعشاء)“رواه أبو داود والترمذي” .
وإذا نزل المسافرفي أثناء سفره للراحة، فالأفضل لهُ أن یصلي كلَّ صلاة في وقتها قصراً بلا جمع.
ویباح الجمع بین الظهر والعصر وبین المغرب والعشاء للمریض الذي یلحقه بترك الجمع والقصر.
قال شیخ الإسلام ابن تیمیة ــ رحمه االله ــ: (وإنما كان الجمع لرفع الحرج عن الأمة، فإذا احتاج الجمع جمعوا، والأحادیث كلُّها تدلُّ على أنَّه یجمع في الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته، فیباح الجمع إذا كان في تركهِ حرج قد رفعه االله عن الأمة، وذلك یدلُّ على الجمع للمرض الذي یحرج صاحبه بتفریق الصلاة بطریق الأولى والأحرى ) .

رابعاً صلاة الخوف: تشرع صلاة الخوف في كلِّ قتال مباح، كقتال الكفار والبغاة والمحاربین، لقولهِ تعالى:(إنّ خِفتُم أنّ يَفتِنَكُم ُ الذّينَ كَفَروا)”النساء101″ .
وقس علیهِ الباقي ممَّن یجوزقتاله، ولا تجوزعلیه صلاة الخوف في قتال محرم .
والدلیل على مشروعیة صلاة الخوف الكتاب والسنة والإجماع: لقوله تعالى:( وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ ۗ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ ۖ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا)”النساء 102″ .
قال الإمام أحمد ــ رحمه االله ــ: “صحّت صلاة الخوف عن النبي ــ صلّى الله عليه وسلم ــ من خمسةِ أوجهٍ أو ستة كلّها جائزة”.
فهي مشروعة في زمنهِ علیه الصلاة والسلام، وتستمرُّ مشروعیتها إلى آخر الدَّهر، وأجمع على ذلك الصحابة وسائر الأئمة ما عدا خلافاً قليلاً لا يعتدَّ بهِ.
وتفعل صلاة الخوف عند الحاجة إلیها سفراً وحضراً، إذا خیف هجوم العدو على المسلمین؛ لأنَّ المبیح لها هو الخوف لا السفر، ولكن صلاة الخوف في الحضر لا یقصر فیها عدد الركعات، وإنما تُقصر فيها صفةُ الصلاة، وصلاة الخوف في السفر التي يُقصر فيها عدد الركعات إذا كانت رباعية، وتقصر في الصفة .
وتشرع صلاة الخوف بشرطين:
الشرط الأول: أن یكون العدو یحلُّ قتالهُ كما سبق .
الشرط الثاني: أَن ُيخاف هجومه على المسلمین حال الصلاة، لقوله تعالى:( إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ )”النساء101″ .
وقوله تعالى:( وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً ۚ)”النساء102″ .
ومن صفات صلاة الخوف الواردة عن النبي ــ صلّى الله عليه وسلم ــ في حدیث سهل بن أبي حثمة الأنصاري ــ رضي االله عنه ــ وقد اختار الإمام أحمد العمل بها؛ لأنَّها أشبه بالصفة المذكورة في القرآن، وفیها احتیاط للصلاة واحتیاط للحرب، وفیها نكایة بالعدو، وقد فعل علیه الصلاة والسلام هذه الصلاة في غزوة ذات الرقاع.


ومن صفات صلاة الخوف ما روى جابر؛ قال: (شهدت مع رسول االله صلّى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصففنا صفین، والعدو بیننا وبین القبلة، فكبر رسول االله صلّى الله عليه وسلم فكبرنا، ثم ركع فركعنا جميعاً، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جمیعاً، ثم انحدر بالسجود، وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع فركعنا جمیعاً ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعاً،ثم انحدر بالسجود والصف الذي یلیه وكان مؤخراً في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبيّ صلّى الله عليه وسلم السجود، وقام الصف الذي یلیه؛ انحدر الصف المؤخر بالسجود، فسجدوا ثم سلّم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم سلّمنا جميعاً)”رواه مسلم” .

ونستفید من صلاة الخوف على هذه الكیفیات العجیبة والتنظیم الدقیق: أهمیة الصلاة في الإسلام، وأهمیة صلاة الجماعة بالذات، فإنهما لم یسقطا في هذه الأحوال الحرجة؛ كما نستفید كمال هذه الشریعة الإسلامیة، وأنّها شرعت لكلّ حالة ما یناسبها، كما نستفید نفي الحرج عن هذه الأمة، وسماحة هذه الشریعة وصلاحیتها لكل زمان ومكان .


شارك المقالة: