البديهة والارتجال في الشعر العباسي

اقرأ في هذا المقال


يعد نظم الكلام إبداع وتميز لدى العرب وفي ذات الوقت هو شاق على أغلب أهل الشعر وخصوصاً أولئك الذين تعلموا نظمه ودرسوه حتى يتمكنوا من إتقانه، لكن هناك من أهل النظم من كان يسهل عليهم ذلك لأنهم ولدوا شعراء  فنظموا الشعر دون عناء، وفي هذا المقال سنوضح البديهة والارتجال في شعر العباسيين.

تعريف شعر البديهة والارتجال

لاقى نظم الكلام اهتمام كبير لدى القدماء من العرب وتفوقوا فيه على سائر الأمم وسواء شعراء أو شَاعرات الخلفاء والرعية والصعاليك أيضاً، حيث كانوا مشغوفين في هذه الصنعة والشاعر المشرقي نظم الكلام في جميع المواقف في مختلف الأزمان وقاله مرتجلاً أو راوياً.

الارتجال في اللغة: يقال ارتجل الحديث أي نطق به من غير عناء، وارتجل بقوله أي انفرد به والارتجال عند القدامى يعني الاختراع وهو التحدث بالكلام الجديد في المعنى والجديد في الهيئة.

الارتجال اصطلاحاً: هو المجيء بكلمات حديثة ليست متداولة قبل ذلك وكذلك تحمل معنى جديد، والارتجال في الشعر يرتكز على نظم المفردات من غير تمهيد لذلك، والارتجال قال عنه ابن رشيق: “ما كان انهماراً وتدفقاً لا يتوقف فيه قائله”.

وقال عنه الجاحظ: ” كل شيء للعرب فإنما هو يهديه وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكرة ولا استعانة، إنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى رجز يوم الخصام أو حين يجتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند صراع في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد فتأتيه المعاني إرسالاً، وتنثال عليه الألفاظ انثيالا.”

البديهة والارتجال في الشعر العباسي

في الفترة العباسية ازداد أهل الشعر إبداعًا في الارتجال ونذكر منهم أبو الأسد مادحًا موسى الهادي فقال:

يا خير من عقدت كفّاه حُجرته

وخير من قلدته أمرها مُضرُ

وأيضاً نذكر أبو نواس الذي أبدع في الارتجال، ونذكر أنه ذات مرة التقى بالخصيب في المسجد واستفزه حين قال أنه لا يروي الشعر ولا يستطيع قوله ارتجالا فرد مسرعاً بقوله:

منحتكم يا أهل مصر نصيحتي

ألا  فخذوا من ناصحِ بنصيب

رماكم أمير المؤمنين بحة

أكول لحيات البلاد شروب

فإن يك باقي سحر فرعون فيكم

فإن عصا موسى بكف خصيب

والفترة العباسية عجت بأهل الشعر الذين أبدعوا في شعر الارتجال وخلفوا كنزاً شعرياً يثبت هذا الشيء، والارتجال في الشعر أثبت أن الشاعر حين يرتجل يكون صافي الذهن بعيد عن المتاعب والهموم التي تشغل النفس عن الإبداع.

ونروي من الشعراء الذين ارتَجلوا الشعر وتميزوا فيها هديبة الذري وطرفة البكري وأيضاً ما قال مرة السعدي، ومن أشعار المرتجلة ما قال في شأن مصعب بن الزبير عندما أمر فتى من بني أسد بقتله حيث قال:

بني أسد إن تقتلوني تحاربوا

تميماً إذا الحرب العوانُ اشمعلَّت

ولست وإن كانت إلى حبيبة

بباك على الدنيا إذا تولت 

ونذكر أبيات عبد بن صلاءة المرتجلة حيث يقول:

أقول وقد شدوا لساني بنسعة

أمعشر تيم أطلقوا من لسانيا

فيا راكباً إما عرضت فبلغن

نداماي من نجران أن لا تلاقيا

ونرى البديهة والارتجال حاضرة في أبيات تميم بن جميل الذي أمر المعتصم بالقضاء عليه فقال في ذلك:

أرى الموت بين النطع والسيف كامناً

يلاحظني من حيث ما أتلفَّتُ 

وأكبر ظَربي أراك اليوم قاتلي

وأي امرئٍ مما قضى الله يفلت

وأي امرئٍ يدلي بعذر وحجة

وسيف المنايا بين عينيه مُصلت

يعز على  الأوس بن تغلب موقف

يسل علي السيف فيه وأسكت

كان المتنبي مسترسل بالارتجال ولكن أبياته في الارتجال كان يشوبه الضعف على عكس المروي، ويعود ذلك لأن الشاعر عند الارتجال لا يركز في أدواته بعكس الروَّية التي يتأمل الشاعر فيه بأدواته الشعرية ومفرداته.

وقال ابن مسكويه عن الارتجال: “إن البلاغة التي تكون بالقلم تكون مع روّية وفكرة، وزمان متع للانتقاد والتخيّر، والضرب والإلحاق وإحالة الرويّة لإبدال الكلمة بالكلمة، ومن تبدأ بالكلام متى لم يكن لفظه ومعناه متوفيين عرض له التتعتع، التلجلج وتمضغ الكلام، وهذا هو العي المكروه والمستعاذ منه”. 

الموضوعات الشعرية التي تحدث فيها شعر البديهة والارتجال

1- المديح: وفي هذا النوع نجد مزيجاً من الممدوحين كالملك وولاة الأمر والقائد والشاعر أيضاً، كلٌ له صفاته الخاصة التي تميز كالشَجاعة والكرم وغيره، ومثال على هذا الموضوع ما ارتجله أبو نواس مادحاً محمد بن رشيد:

ملكة على طير السعادة واليمن

وجاءت لك العلياء متقبل السن

بمحيا وجود الدين تحيا مهناً

بحسن وإحسان مع اليُمن والأمن

لقد طابت الدنيا بطيب ثنائه

وزادت به الأنام حسناً إلى حسن

لقد فك رقاب الرجال محمد

وأسكن أهل الخوف من منف الأمن

إذا نحن أثنينا عليك بصالح

فأنت كما نثني وفوق الذي نثني

2- الفخر: برز المتنبي في هذا الموضوع حيث كان يبدع فيه رؤية وارتجالاً حيث تباهى بأنه أرفع الخلق منزلة ومن أشعاره المرتجلة في هذا الموضوع قوله:

أي محل أرتقي

أي عظيم أتقي

وكلُّ ما خلق الله

ولم خلق

محتقر في همتي 

كشعرة في مفرمتي

وكان كثير التفاخر بشاعريته حيث يقول:

أتذكر ما نطقت به بديها

وليس بُمنكر سبق الجواد

أركض معوضات الشعر قسراً

فاقتلها وغيري في الطراد

وتفاخر المتنبي بشجاعته وحُلمه بأن يموت في ساحة المعركة، حين طلب منه أبو ضُبيس شرب الخمر رد مرتجلاً:

ألذ من المدام الخندريس

وأحلى من معاطاة الكؤوس

معاطاة الصفائح والعوالي 

وإقحام خميسا في خميس

فموتي في الوغى أربي لأني

رأين العيش في أرب النفوس

وكوس سُقيتها بيدي النديم

أسرُّ به لكان أبا ضبيس

3- الرثاء: أبدع الشريف الرضي الارتجال في هذا الموضوع وخصوصاً رثائه ابن الحجاج حيث يقول في مرثيته بديهياً:

نعوه على ظن قلبي به

فلله ماذا نعى الناعيان

رضيع ولاء له شُعبه

من القلب فوق رضيع اللّبان 

بكيتك للتشرد السائرات

تعبق ألفاظها بالمعاني

مواسم تَعلط منها الجباه

أشهر من مطلع الزرقان

4- الهجاء: برع الشعراء في هذا الموضوع حيث ارتَجلوا للمتلقي لوحاتٍ فنيةٍ تعج بَالذم والهجاء ولكن بأسلوب متهكم شاخر ونذكر منهم ابن طباطبا بذكر أسودين وقفا بباب ابن رستم حيث كتب ارتجالاً:

رأيت بباب الدار أسودين

ذوي عَمامتين حمراوين

كجَمرتين فوق فحمتين 

قد غادرا الرَّفض قريري

جد كما عثمان ذو النورين

فما له أنسل ظُلمتين

وفي النهاية نستنتج أن الكلام المنظوم جاد وتميز في الفترة العباسية وسطع نجم أهل الشعر في هذه الفترة، وبرعوا في الشعر بديهة وارتجالاً أمثال المتنبي، والشريف الرضي، وابن طباطبا وغيرهم الكثير.


شارك المقالة: