الحياة الاجتماعية في الشعر العباسي

اقرأ في هذا المقال


الكلام المنظوم لوحة تعبيرية توضح مجريات المجتمعات، ويعد موسوعة تاريخية يدون الأحداث والمجريات في العصور كافة، كما يحمل في جعبته قضايا اجتماعية فهو لغة تواصل توصف الحياة الاجتماعية والأحاسيس الداخلية، و الكلام المنظوم نشأ ليِترجم الحياة الاجتماعية بكل مراحل الحياة ومحاكي لواقع الحال يقف على تطور الأمم يعالج أحوال البشر، وفي هذا المقال سنتناول الحياة الاجتماعية في الكلام المنظوم في فترة بني العباس.

الحياة الاجتماعية في العصر العباسي

على خلاف ما انتشر في العهد الأموي الذين تمسكوا بالعنصرية القومية كان عهد بني العباس الذين تخلوا عن هذه العنصرية ولم يثقوا بأهل المشرق ويولوهم أمورهم، فقد كانوا يميلون إلى حلفائهم الذين يساعدونهم في حماية بلادهم وهم الفرس.

اندمج العجم من الفرس في تلك  الفترة مع السكان الأصليين وقاموا على نقل عاداتهم وثقافاتهم إلى مجتمع الذي تأثر بها وأخذ منها الكثير، ثم برز أدب جديد نتيجة الدمج ويكون هذا الأدب على لسان القيان المثقفات وهذا لم يكن معروفاً لدى أهل المشرق قبل ذلك.

كما برز في تلك الفترة أدب التصوف والزهد وهجر ملذات الدنيا الفانية وسبب ذلك هو الفسق والمجون الذي انتشر في ذلك العهد نتيجة الاختلاط بالعجم، فنشأ الرقص والغناء والشرب وغرق الناس بالترف لاهين عن فئات الفقيرة في تلك الفترة، ولقد ركز ابن الرومي إلى ذلك من خلال أبياته قائلاً:

لا يراني أهلاً لملك الظَّهاري 

ولا موضع العطايا الرغاب

لتُراني دون الأولى بلغوا الآمال 

من شُرطةٍ ومن كتاب

وتجارٍ مثل البهائم فازوا

بالمنى في النفوس والأحباب 

فيهم لكنة النَّبيط ولكن

تحتها جاهلية الأعراب

لقد صور اين رومي مجتمعه وكل الأحداث المضطربة فكان مرآة تظهر تلك الحياة ويتحدث بلسان المجتمع آنذاك، وكان المجتمع العباسي في تلك الفترة غارق في الملذات واللهو، وكذلك الغناء والرقص وكانت بلادهم تعج بالمجالس الذي تحوي بين جدرانها رواد الكلام المنظوم ورواد الأدب والعلماء، وكانت تحتوي كل فن غريب ومستَحدث، فَتتعجب من تلك المجالس ولا تدري ما الهدف منها هل هي للهو والمجون أم هي للعلم والأدب.

وقد كان لهذه الأماكن في المجتمع الذي الخاص وكانت تسمى بـ ثياب المنادمة وهي ملابس كثيرة الألوان تلمع معطرة ومموجة بخيوط الذهب، وفي هذه الأماكن يتم تداول آداب الشعوب وأخبارهم وما جدَّ من العلم في بلادهم.

كما كان لكل حاكم جلساء يختارهم ولي الأمر ويكونوا من النوابغ والعلماء يجالسهم ويأنس به في أوقات أرقهِ، كما كانوا يسرفون في الشراب والطعام في هذه المجالس وكان الحكم يطلب إلى رواد الكلام المنظوم أن يصفوا له أنواع الطعام والشراب ويتبادل الحوار والفكاهات مع ندمائه.

من هنا سيطر العجم على الغنائم وسلبوا خزائن الدولة والخلفاء لاهين في حياة الترف واللهو، وأصبح الخلفاء يضعون أيديهم على ممتلكات الناس؛ حتى يتمكنوا من سد النقص الذي طال خزائنهم فشاعت السرقات وكذلك الرشاوي، وظلت الإقطاعات تتأرجح.

وعن الإقطاع قال العقاد: ” نظام معيب ولكنه يبقى مستور العيب ما بقيت الدولة وسطوة القائمين عليها فإذا ضعفت وضعفوا فهو الشر المستطير يسقى به الحاكم والمحكوم وينخر في أركان الملك فلا يدعه إلا وهو مفكك الأجزاء معتوه بأسباب الفناء. “ 

شاع الإقطاع وانتشر في البلاد وكان يزود الخلفاء بمبلغ من المال والهدايا، وظهرت في تلك الفترة طبقة الأغنياء الذين عاشوا حياة الرفاهية وفاضت خزائنهم بالخيرات، وانصرفوا إلى إنشاء القصور واهتموا بالبساتين أيضًا أحواض السباحة، ومثال على ذلك قصور المتوكل التي بينت من الإقطاعات وفيها النوافير والبرك والزخارف والبساتين وغير ذلك.

وكل ذلك على حساب الطبقة الكادحة التي تكد وتتعب ولا تجني قوت يومها بسبب هذه الإقطاعات، ومن هنا دُمرت البلاد وعمَّ الفساد والتمرد والرفض ولهذا لجأ الحكام إلى الغدر بالولاة وقتلهم وانتشر الاختلاس، وأصبح أهل الإقطاع لا يشغلهم إلا جمع المال بشتى الوسائل فأرهقوا كاهل الناس وأغرقوهم بالضرائب.

ولقد تكون الكلام المنظوم في تلك الفترة وكان مواكباً لأحداث المجتمع يصور كل ما يجري فيها ويتعايش معها، ولهذا السبب تطور وبرز بصور جديدة مميزة يتناول الصراعات الثقافية والسياسية وغير ذلك.

لقد كان الكلام المنظوم في ذاك العهد عبارة عن حلقة ربط بين القديم والمتمثل بالثوابت والعادات القديمة والجديدة المتمثلة بالصراعات والنزاعات التي شهدها المجتمع في تلك الفترة على أيدي أهل الشعر مثل أبو نواس وبشار بن برد وغيرهم.

قد مرَّ الكلام المنظوم في تلك الفترة بمراحل كانت شاهدة على ازدهاره في مواضع، وضعفه في أخرى، وبرزت مواضيع حديثة لم تكن معروفة من قبل وكانت تتفرد بمقطوعات مستقلة، وكذلك اختفت مواضيع معروفة لم يعد هناك حاجة لها مثل ضعف الكلام المنظوم بالسياسة، والحماسة، وبرز مكانه الكلام المنظوم من التكسب ونيل العطايا.

كما اندثرت بعض المفردات والمعاني المتعلقة بالبداوة وأخذ مكانها مفردات وعبارات تلائم البيئة الحديثة، كما ظهر الكلام المنظوم الفلسفي الذي يتناول فيه صاحبه مسائل فلسفية ومثال عليهم أبو العلاء المعري.

أبرز شعراء الشعر الاجتماعي في العصر العباسي

1- الصنوبري: كان ذكي فطن وحاد المزاج لهذا لقب بالصنوبري، وكان يكثر في مقطوعاته من تصوير حياة اللهو والترف في المجتمع العباسي كما كان يعشق وصف البيئة وما تحتويه من جمال ومن ذلك قوله:

سقي حَلَبُ المزن مغنى حَلَبْ 

فكم وصلت طرباً بالطرب 

وكم مستطابٍ من العيش لذَّهبا 

لي إذ العيش لم يُستطب

إذا نشر الزهرُ أعلامه

بها مطارفهُ والعذب

2- ابن الرومي: عاش في حياته بالكثير من المآسي والتي انعكست على مقطوعاته وكان شديد التأثر بما يجري حوله من أحداث ونزاعات في مجتمعه وصور الحياة الاجتماعية بجميع تفاصيلها في أبياته، فكانت مقطوعاته مرآه تعكس الواقع كما هو، كما عُرف محبته وعشقه لبلاده والدفاع عنه ومثال على ذلك ما قاله:

ولي وطنٌ آليت ألا أبيعَهُ

وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا

عهْدتُ به شرخَ الشبابِ ونعمةً

كنعمةِ قومٍ أصبحوا في ظِلالكا

فقد ألفَتْهُ النفسُ حتَّى كأنه

لها جسدٌ إن بانَ غودِرْتُ هالكا

وحبَّب أوطانَ الرجالِ إليهمُ

مآربُ قضَّاها الشبابُ هنالك

3- أبو العتاهية: الذي اشتهر بـ زهدياته وتأثر بالحياة المتردية والظلم والاستبداد الذي عمَّ في بلاده لهذا توجه إلى الزهد ومن أبياته:

تولت جدَّة الدنيا

فكل جديدها خلقُ 

وخان الناس كلهم

فما أروي بمن أثق

كأن معالم الخيرات

قد سُدّت لها الطُرق

وفي النهاية نستنتج أن الكلام المنظوم في تلك الفترة كان مرآة تعكس الواقع والحياة الاجتماعية وكان بمثابة موسوعة تاريخية يحمل في ثناياه الأحداث والتطورات التي جرت في تلك الفترة، ولقد برز في هذا النوع من الكلام المنظوم ابن الرومي وأبو العتاهية وغيرهم الكثير.


شارك المقالة: