تميّز الأندلسيون في مختلف الآداب والفنون ومختلف العلوم، وأبدعوا في مجال الأدب فأنتجوا أدبًا متنوعًا غزيرًا، وتركوا حضارة عظيمة تشهد على عظمتهم، فلا يخلو أي علم من بصمة الأندلسيين، ولقد برز شعراء الأندلس وتميزوا في مجالهم، فأنتجوا شعرًا جميلًا متعدد الأغراض ومنه شعر الغزل الذي أبدعوا فيه.
ظهور الغزل الأندلسي في الأندلس
كان المجتمع الأندلسي متعدد الأصول من الناس، فقد ضمّ العرب وغير العرب تحت رايته، وكانت اللغة المعتمدة للجميع هي اللّغة العربيّة، وقد تميزت بلاد الأندلس بكثرة مجالس الغناء والغنى والتّرف، وكان للطبيعة الأندلسية دور كبير وأثر واضح في شعر الغزل فقد استعانوا بها للوصول للوصف المطلوب.
ولهذا النوع من الشعر مكانة واضحٌة في الشّعر الأندلسي؛ والشّاعر الأندلسي قام بتخصيص مجالًا أكبر في شعره من أجل ذكر محبوبته، وأكبر مثال على ذلك ما دار بين ولّادة وابن زيدون، فيُذكر أنّها كتبت لابن زيدون:
ترقّبْ إذا جنَّ الظّلامُ زيارتي
فإنّي رأيتُ الليلَ أكتمَ للسرِ
وبي منكَ ما لو كانَ بالبدرِ ما بدا
وباللّيل ما أدجى وبالنجم لم يسرِ
وقال ابن زيدون وهو ينتظر لقاء المحبوبة:
أَبرَزَ الجيدَ في غَلائِلَ بيضٍ
وَجَلا الخَدَّ في مَجاسِدَ حُمرِ
وَتَثَنَّت بِعِطفِهِ إِذ تَهادى
خَطرَةٌ تَمزُجُ الدَلالَ بِكِبرِ
زارَني بَعدَ هَجعَةٍ وَالثُرَيّا
راحَةٌ تَقدِرُ الظَلامَ بِشِبرِ
فَرَشَفتُ الرُضابَ أَعذَبَ رَشفٍ
وَهَصرتُ القَضيبَ أَلطَفَ هَصرِ
يا لَها لَيلَةً تَجَلّى دُجاها
مِن سَنا وَجنَتَيهِ عَن ضَوءِ فَجرِ
ويعتبر الغزل من أهم الأغراض التي تناولها الشعراء في شعرهم، فنرى الشّاعر يتردد بين وصل محبوبته أو هجرها، ومتردد بين الحب والصّد، فكان يغلب على مشاعره طابع الحزن تارةً والفرح تارةً أخرى والخوف كذلك وغير ذلك من اضطرابات، ووظف الشاعر شعره ليعبر عن هذه المشاعر المضطربة، ومثال على ذلك قول الحكم الربضي:
قُضُبُ من البانِ ماسَتْ فوقَ كُثبانِ
أعرضْنَ عنّي وقد أزمعْنَ هجراني
مَلَكْنَني مِلْكَ من ذلّت عزائمه
للحبّ ذُلّ أسيرٍ موثقٍ عانِ
كذلك برز نوع جديد من أنواع الغزل وهو غزل الشاعرات الأندلسيات، فبرزت نخبة من الشّاعرات بالشّعر بشكل عام وبالغزل بشكل خاص، وقد عُرف عن المجتمع الأندلسي باهتمامه بتعليم المرأة وتثقيفها مما جعلها تتفوق في مجال الأدب والشّعر، وممّن تفوق في هذا النوع من الشّعر الأميرة والشاعرة المشهورة ولّادة بنت الخليفة المستكفي معشوقة الشاعر ابن زيدون.
من مميزات الشعر العذري في الشعر الأندلسي تواجده ومكانته الواضحة بالرغم من أنه لم يعرف من قبل، ويمكن ذكر أبرز شعراء الغزل العذري المعروفين في الأندلس وهو الشاعر والفارس سعيد بن سليمان بن جودي، الذي قد وقع في حبّ جارية عندما قام بسماعها وهي تغني عند أحد الأمراء، ومن بعض الأشعار التي قالها فيها:
سَمعي أَبى أَن يَكونَ الرّوحُ في بَدَني
فَاعتاضَ قَلبي مِنهُ لَوعَةَ الحزَنِ
أعـطيت جيجانَ روحي عَـن تَذَكُّرِها
هَـذا وَلَم أَرَها يَومًا وَلَم تَرَني
فَقُل لِجيجانَ يا سولي وَيا أَمَلي
استَوصي خَيرًا بِروحٍ زالَ عَن بَدَنِ
كَأَنَّني وَاسمُها وَالدَّمعُ مُنسَكِبٌ
مِن مُقلَتي راهِبٌ صَلّى إِلى وَثَنِ
خصائص الشعر الأندلسي في الغزل
تنوعت خصائص الشعر في ذاك العصر، منها ما يلي:
التحرر من المعاني البدوية القديمة
عرفت معاني الشّعر الأندلسي أنها كانت معاصرة للبيئة المتحضّرة التي انتشرت في العصر الأندلسي ومع مظاهر التّرف والغنى التي تمتع بها المسلمون في مدن الأندلس، وعلى الرغم من التحرر من المعاني البدوية لم تكن شامله لجميع أشعار الغزل الأندلسي فبعض الشعراء لجأوا إلى المعاني البدويّة في التّعبير عن عشقه، يقول ابن زيدون:
سرى ينافحهُ نيلوفرٌ عبقٌ
وسنانُ نبّهَ منهُ الصبح أحداقا
لو شاء حملي نسيمُ الصبحِ حينَ سرى
وافاكمُ بفتًى أضناهُ ما لاقى
رقة الألفاظ وخفة التراكيب والأوزان
ومن المعروف عن شعر الغزل أنه يكون أرهف من باقي الأغراض الشعرية الأخرى التي كانت متداولة بين العرب؛ فالشاعر يختار ألفاظه بتركيز أكبر إذا ما أراد أن يقول في شعر الغزل، وخصوصًا أنه عاش في بيئة مرهفة تحيط بها الجنان والرياض من جميع الجهات، يأتي شعر الغزل في الأندلس مرهفًا، صافيًا كمياه غرناطة وينابيعها، ومثال على ذلك ما قاله ابن عبد ربّه واصفًا قلبه الذي تعلق بالحبّ فيقول:
قيّدهُ الحبُّ كما
قيّدَ راعٍ جملا
تشخيص الظواهر الطبيعية
تعامل الشّاعر مع الطبيعة باعتبارها كائن حي وليس جمادات، وجعل فيها الحياة النابضة بالحركة والحيوية وصوّرها تصويرًا حيًّا ودقيقًا، ومن ذلك قول ابن سهل الإشبيلي:
الأرضُ قد لبسَت رداءً أخضرَا
والطلّ ينثرُ في رباها جوهرا
وكأنّ سوسَنها يصافحُ وردها
ثغرٌ يُقبّلُ منه خدًّا أحمرا
تصوير الطبيعة ومفاتنها
فلقد وظّف الشاعر الطبيعة في شعره واستمد منها معاني الغزل الذي وصف بها معشوقته، وكان في بعض الأحيان يُشبّه الطبيعة بمحبوبته بجميع مفاتنها ومحاسنها، وكان يستعين بمكونات الطبيعة لوصف محبوبته كالأشجار والأزهار وينابيع المياه، وكذلك الطيور والحيوانات المتوحشة والأليفة، ومثال على ذلك قول ابن خفاجة:
وَصَقيلَةِ الأَنوارِ تَلوي عِطفَها
ريحٌ تَلُفُّ فُروعُها مِعطارُ
عاطى بِها الصَهباءَ أَحوى أَحوَرٌ
سَحّابُ أَذيالِ السُرى سَحّارُ
وَالنورُ عِقدٌ وَالغُصونُ سَوالِفٌ
وَالجِذعُ زَندٌ وَالخَليجُ سِوارُ
النزوع نحو الغزل العذري
استقى الشعر الأندلسي الغزلي معانيه من الآداب الجديدة التي توصل إليها بعد أن أصبح جزءًا من البيئة الحديثة التي تختلف عن البيئة المشرقية، فسيطرت عليهم حياة اللهو وكانت تسيطر على أغلب الأندلسيين، فمال غزلهم إلى مذهب عمر بن أبي ربيعة ومن أتى بعده، وظهر نوع جديد عند أغلب الشعراء جعل هذا التوجه يظهر في أشعارهم، فذكروا محبوبة واحدة في جميع أشعارهم، وذلك مثل ابن زيدون الذي كانتْ جميع قصائده في الغزل لمعشوقته ولّادة، ومنهم كذلك الشاعر ابن الحداد ومن شعر ابن حداد في نويرة قوله:
لعلّكَ بالوادي المقدّسِ شاطئٌ
فكالعنبر الهندي ما أنا واطئ
وإنّي في ريّاكَ واجدُ ريحِهم
فروحُ الهوى بين الجوانحِ ناشئُ
ولي في السّرى من نارهم ومنارهم
هداةٌ حداةٌ والنجومُ طوافئ
ومن ذلك الغزل ما يكتفي الشّاعر فيه بالأمور المعنوية عن وصل المحبوبة، وذلك كقول ابن حزم:
فَإِنْ تَنْأَ عنِّي بِالوِصَالِ فَإِنَّنِي
سَأَرْضَى بِلَحْظِ العَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَصْلُ
فَحَسْبِيَ أَنْ أَلْقَاكَ فِي اليَوْمِ مَرَّةً
وَمَا كُنْتُ أَرْضَى ضِعْفَ ذَا مِنْكَ لِي قَبْلُ
كَذَا هِمَّةُ الوَالِي تَكُونُ رَفِيعَةً
وَيَرْضَى خَلَاصَ النَّفْسِ إِنْ وَقَعَ العَزْلُ
وفي قصيدة أخرى ذكرها في كتابه طوق الحمامة يرى ابن حزم أنّ وصل الروح ألطف من وصل الجسد فيقول:
فَرُوحِي إِنْ أَنَمْ بِكِ ذُو انْفِرَادٍ
مِنَ الأَعْضَاءِ مُسْتَتِرٌ وَمَخْفِي
وَوَصْلُ الرُّوحِ أَلْطَفُ فِيكِ وَقْعًا
مِنَ الجِسْمِ المُوَاصِلِ أَلْفَ ضِعْف
طغيان الوصف المادي للمحبوبة على الوصف الخلقي
لم يَعد الشّاعر يهتم كثيرًا بصفات المرأة المعنوية من حياء وخلقٍ حسنٍ وغير ذلك، بل عَمِد إلى ذكر محاسنها ومفاتنها، فاصبح الأندلسيّ يتغزّل بمفاتن المحبوبة الملموسة أكثر من غيرها من الصفات المعنوية، كتناوله للشفاه والفم والعيون والقدّ الممشوق والنهد البارز الممتلئ ونحو ذلك من صفات المرأة الملموسة، يصف الشاعر نفسه وقد فاز من محبوبته بالوصال، وممّا جاء في هذا الوصف الذي كان يصل أحيانًا إلى درجة المبالغة، قول ابن زيدون:
فرشَفْتُ الرُّضَابَ أَعْذَبَ رَشْفٍ
وهَصَرْتُ القَضِيْبَ ألطَفَ هَصْرِ
ونَعِمْنا بِلَفِّ جِسْمٍ بِجِسْمٍ
للتّصافي وقرَعِ ثغرٍ بثغرِ
ومن هذا الشعر كذلك ما جاء في تذكّر المعشوقة وكان يتمنّي وصالها قول الشاعر ابن حمديس:
وطيبةُ الأنفاسِ تحسَبُ وَصْلَها
ومن واصلتْهُ جنَّةَ المتنعّمِ
وكذلك قول الشاعر ابن العطار:
رقَّتْ محاسِنُها ورقَّ نعيمُها
فكأنّما ماء الحياةِ أديمُها
شعراء الغزل الأندلسي
حمدونة الأندلسية
وهي حمدونة بنت زياد بن تقي العوفي، وهي من قرية وادي آش، ولقد عاشت في أسرة مثقفة، وكانوا يلقبونها بخنساء العرب؛ لأنها تميزت في شعر الرثاء، واشتهرت بشعر الغزل.
ولادة بنت المستكفي
هي الشاعرة المعروفة ولّادة بنت المستكفي، أميرة من أميرات الأندلس وهي شاعرة من شاعرات العرب، انشهرت بالعصر الأموي للأندلس وهي من بيت الخلافة، عرفت بالبلاغة والشّعر، وقد كان لها مجلسٌ مشهور في قرطبة يزوره الأعيان والشّعراء ليتحدّثوا في شؤون الشّعر والأدب بعد سقوط العهد الأموي في الأندلس، وقد اشتهرت بحبّها لشاعر ابن زيدون، فقالت:
أنا واللهِ أصلُح للمعالي
وأمشي مشيتي وأتيه
تيها أُمكّن عاشقي من صحن خدّي
وأُعطي قبلتي من يشتهيها
ابن زيدون
هو الشاعر أبو الوليد أحمد بن زيدون المخزومي، كان وزير وشاعر وكاتب في الأندلس، ولد وعاش في قرطبة في أسرة من الفقهاء يعود نسبهم إلى بني مخزوم، عُرف بهيامه بالشاعرة ولّادة بنت المستكفي.
ابن عبد ربه
هو الشاعر أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربّه، شاعر أندلسي ومؤلف كتاب العقد الفريد، ولد في قرطبة وتميز بسعة الاطّلاع في العلم والشّعر والرواية، كان يتكسّب من الشّعر بمدحه للأمراء.
وفي النهاية نستنتج أن المجتمع الأندلسي كان مزيج من الناس، فكان منه العرب والعجم، واشتهرت الأندلس بمجالس الغناء واللهو، واشتهر الشعر الأندلسي بالغزل، وأصبح له خصائص تميزه عن باقي الأنواع الشعرية، واشتهر به العديد من الشعراء.