الموسيقى والغناء في العصر العباسي

اقرأ في هذا المقال


اهتم العباسيون بنهضة أشكال الموسيقى والطرب والغناء لمواكبة حياة الرفاهية والترف التي انتشرت في البلاد، كما اهتم به ولاة الأمر والحكام وقاموا على إنشاء الأماكن والمجالس لذلك داخل قصورهم جراء حياة المجون حيث غرقوا بها، كما برز في هذا العهد العديد من أهل الطرب والغناء وفي هذا المقال سنتحدث عن الغناء والطرب في ذاك الوقت وبيان أبرز المغنين والمغنيات أيضاً.

الموسيقى في العصر العباسي

يظهر أن الموسيقى في تلك الفترة قد لاقت تقدماً ملحوظاً سواء من حيث الأداء وشيوع الدراسات الموسيقية، ومدينَة بغداد هي المركز الأساسي تنمو فيه المواهب الموسيقيَّة المشرقية، ونَتيجة للفتوحات والاندماج مع الأعاجم تأثرت الأذواق المشرقية بأذواق أعجمية من الفرس واليونان وغيرهم.

ذلك أدى إلى بروز صفة حديثة في الموسيقى المشرقية لم تكن معروفة قبل ذلك وهذه الصفة هي العناية الفائقة بالموسيقى الآلية، وفي هذا العهد تم استعمال أول آلة قوسية وهي الربابة، وكان القوس في الرباب مشابهاً لقوس الحروب.

لقد تمكن أهل المشرق من نقل البحوث والدراسات والمؤلفات الأعجمية وإعادة صياغتها بلغتهم المشرقية، ومن أهمها السلم الموسيقي المأخوذ عن اليونان، لقد تأثر أهل المشرق بطريقة العجم في العزف فنرى أن استعمالهم للعود قد تغير وأصبح يضرب على العود بطريقة اليونانيين.

لكن أهل المشرق لم يكتفوا بالنقل والأخذ عن العجم، بل قاموا على التحديث وخلق أنماط حديثة في العزف والطرب وقد اتفقوا على العجم أيضاً، وشهد لهم العجم بذلك التفوق، وقاموا على وضع مصنفات عديدة في هذا المجال وأصبحت مادة تعليمية تدرس في مجالس الطرب، ومن هذه المصنفات نذكر:

1- ” رسالة في خبر تأليف الألحان” للكندي.

2- “ كتاب الموسيقى الكبير” للفارابي.

3- “ كتاب الشفاء” لابن  سينا.

4- “ كتاب الأدوار “ لصفي الدين.

الغناء في العصر العباسي

كان للغناء في هذا العصر دوراً في إبراز حياة الرفاهية والترف التي كانت منتشرة في ذاك الوقت وأظهر الرقي والحضارة التي عاشها أهل البلاد الأصليين وكذلك الدخلاء، وعجت قصور الحكام وولاة الأمر بأِشهر المغنين والمغنيات من القيان، وكان ولاة الأمر يستقطبون إلى مجالسهم أبرز المغنين والمغنيات من القيان ويسرفون بالبذخ والعطاء من أجل ذلك.

ولم يتوقف الغناء لولاة الأمر والطبقات الغنية فقط بل تعدَّ ذلك وخرج من مجالس القصور وانتشر في الشوارع منازل عامة الناس، كما همَّ رواد الغناء والطرب على ممارسة مواهبهم في الأماكن العامة والمجالس والشوارع.

لقد رافق ازدهار الغناء وتقدمه تحديث وتجديد في الأدوات الموسيقية المستعملة في الألحان مثل العود والدف والرباب والمزمار وغيره من الأدوات، وهذا العصر انطلاق ثورة في الغناء والطرب بمساعدة أمهر الموسيقيين وبأجمل حناجر الغناء كإبراهيم الموصلي وإسحاق، وإبراهيم المهدي.

كما دعم هذه الثورة الجانب الاقتصادي الجيد للبلاد، كما حثَّ الخلفاء على تعلم الغناء والموسيقى من الثقافات الدخيلة من اليونان وغيره، وأصبح تعلم الغناء ودراسته من أهم العلوم التي يجب تعلمها في ذاك الوقت.

كما كان للمرأة في ذلك الوقت دور كبير لا يمكن الإغفال عنه في تطور الغناء والطرب، وقد سطع نجم العديد منهن مثل عُريب التي كانت من أمهر النساء اللواتي يضربن على العود، وكانت معروفة بصوتها الجميل وكانت تواظب على الغناء في مجلس الواثق الذي شغف بالغناء والطرب.

ولم يقتصر دور المرأة في ذاك الوقت على الغناء فقط بل دمَجن بين روعة الصوت وإتقان الرقص، وعمدن على تأدية صور تمثيلية تدمج بها المغنية جمال الصوت مع الايقاعات الرائعة ومع الحركة الجسد، كما واظبن على تعلم الغناء والطرب لتنمية مواهبهن الفنية والأدبية.  

ومن أشهر المغنيات في ذاك الوقت شارية والتي تميزت بجمال الشكل مع جمال الصوت ورقته مما جعل لها حضور بارز في بلاط الحكام، وكانت من المواظبات على تلقي فنون الغناء على يد إبراهيم المهدي.

الموسيقى والغناء في بلاط الخلفاء العباسيين

نتيجة لحياة الرفاهية التي عاشها ولاة الأمر في ذاك الوقت انتشر الغناء والطرب في بلاط الحكام وشُغف به الكثير من ولاة الأمر، واسرفوا في استقطاب أمهر المغنين والمغنيات إلى بلاطهم ونذكر منهم الحجاج الذي عرف عنه أنه يطرب لسماع الغناء، وفي بداية الأمر يظهر للنُدماء ولكن بعد ذلك أصبح يستمع إليهم من خلف ستار.

وبخصوص أبو جعفر المنصور كان مولعاً بسماع الغناء والموسيقى ولم يظهر لندماء إنما كان بينهم ستار، وقال عنه الجاحظ: ” وكان بينه وبين الستارة عشرون ذراعاً، وبين الستارة والندماء مثلها، فإذا غناه المغني أطربه، حركت الستارة بعض الجواري، فاطلع إليه الخادم صاحب الستارة فيقول: قل له أحسنت بارك الله فيك.” 

وفي عهد المهدي شهد الغناء والموسيقى ثورة وانتشار واسع ومبالغ فيه حتى وصل إلى درجة الخلاعة وسبب ذلك الأمن والاستقرار الذي عمَّ البلاد وكذلك الرفاهية وكثرة الخيرات، وكان للقيان دور أيضاً في انتشاره حيث كثرت الجواري المغنيات في بلاد على عكس حياة البداوة التي تخلو من ذلك.

وكان المهدي لا يبرز لندماء في بداية سلطته وبعد ذلك كشف الستار وجالس الندماء وجهاً لوجه، وقام أبا عون بنصحه أن ينزل الستار فرفض المهدي ذلك قائلاً: ” إليك عني يا جاهل! إنما اللذة في مشاهدة السرور، وفي الدنو ممن سرني، فأما من وراء ، فما خيرها ولذتها؟ ولد لم يكن في الظهور للندماء والإخوان إلا أني أعطيهم من السرور بمشاهدتي مثل الذي يعطوني من فوائدهم، لجعلت لهم في ذلك حظاً موفرا. ” 

وعنه قال الجاحظ في مؤلفه ” البيان والتبيين”: ” لقد كان المهدي يجب القيَّان وسماع الغناء، وكان معجبا بِجارية يقال لها جوهر، وكان اشتراها من مروان الشامي، فدخل عليه ذات يوم مروان الشامي وجوهر تغنيه فقال مروان: أنت يا جوهر عندي جوهرة في بياض الدرة المشتهرة فإذا غنت فنار ضرّمت قدحت في كل قلب شررة. “

ومن هنا يتضح لنا أن بلاط ولاة الأمر كان يعج بالمغنين والمغنيات الجواري وكان الحكام يظهرون لندماء ويشاركونَهم اللهو والطرب دون حرج ولكن في حدود معينة مسيطراً على نفسه، وكان ذلك ظاهراً في مجلس الهادي الذي كان مولع بالغناء والطرب.

وكان يستقطب إليه أمهر المغنين والقيان وعرف بِإسرافه في البذخ والعطاء وينفق الكثير من الأموال في سبيل ذلك، وكان يطرب لصوت إبراهيم الموصلي، وذات مرة غنى له إبراهيم فطرب الهادي لصوته وانتفض من مجلسه وصاح قائلاً:أعد بالله، وبحياتي فأعاد فقال: أنت صاحبي فاحتكم. ” 

يأتي بعد ذلك هارون الرشيد الذي عَنى بالغناء كثيراً وجعل لرواده مراتب وإبراهيم الموصلي وابن الجامع هم في المرتبة الأولى، ويأتي بعدهم في مرتبة ثانية سليم بن سلام وعمرو الغزال وغيرهم، وفي الثالثة فوضع أهل العزف.

وعرف عن الرشيد أنه يجزل العطاء وخصوصاً لأهل المرتبة الأولى ومن يرافقه من المراتب الأخرى يأخذ كعطايا المرتبة الأولى، والغناء والطرب من الضروريات في حياة الرشيد حيث أنه لا يوجد عنده القدرة على الاستغناء عنه حاله كحال ولاة الأمر الذين سبقوه في هذا العصر.

أشهر رواد الموسيقى والغناء في العصر العباسي

1- إبراهيم الموصلي: يعد من أشهر الموسيقيين في ذاك الوقت، وقد تتلمذ على يد العديد من هواة الغناء وعلى اتصال ببلاط ولاة الأمر ويطربون لسماعه مثل الهادي والرشيد وغيرهم.

2- ابن الجامع: تعلم الموسيقى على يد زوج أمه سياط، وكان مولع بالموسيقى والطرب وانتقل في البلاد يتعلم فنونه وأصوله.

3- إبراهيم بن المهدي: أمه الجارية شكلة التي أُغرم بها المهدي وتزوجها وأنجبت له إبراهيم تعلم أصول الغناء والموسيقى عن أمه.

4- مخارق: الذي شغف الناس به وبصوته وأطلق عليه أبو العتاهية بِعلاج المجانين.

وفي النهاية نستنتج إن الغناء والموسيقى تطور في الفترة العباسية كما ساعد على تطوره عدة أسباب أهمها حياة الرفاهية والترف، وكذلك اهتمام ولاة الأمر في الغناء وإنشاء المجالس لذلك واستقطاب أمهر رواد الغناء إليه.


شارك المقالة: