النثر الأندلسي في وصف الطبيعة

اقرأ في هذا المقال


كانت الأندلس تتمتع ببيئة فاتنة ومناظر طبيعية تسلب الألباب لجمالها الأخاذ والتي لفتت انتباه الشعراء والكتّاب إليها، قد أثرت البيئة في كتّاب الأندلس الذين توجهوا إلى وصف الطبيعة بكتابتهم المتنوعة، وبرز عدد كبير منهم في مجال وصف الطبيعة في رسائلهم ومقالاتهم الأدبية، ومن هذا المنطق سنتوجه إلى توضيح النثر المهتم في وصف الطبيعة الأندلسية.

وصف الطبيعة عند كتاب الأندلس

تميزت البيئة الأندلسية بمفاتنها الجميلة وتضاريسها التي تسلب الألباب وتجعل القلوب تهيم في حبها والتعلق بها، لقد ميزها الله عن سائر الدول بجمال فتّان وهي عبارة عن فردوس وجدت على الأرض.

وها نحن نجد مجموعة من كتّاب الأندلس قد أُولعوا بحب البيئة الأندلسية فوصفوها في كتاباتهم المتنوعة سواء في مؤلفاتهم أو رسائلهم ومقالاتهم الأدبية، حيث وصفوا البساتين والرياض والأزهار ووصف التضاريس البيئية الجميلة، وحتى توجهوا إلى وصف الطيور والحيوان من حيث شكلها ولونها، لقد ترك كتّاب الأندلس للأجيال إرثًا زاخرًا بأجمل الوصوف والصور للطبيعة.

وصف الرياض والبساتين والأزهار في النثر الأندلسي

لقد رسمت لنا ريشة الكّتاب أجمل لوحات الرياض والحدائق، وما يتواجد فيها من أشجار وغصون وورود، وكذلك البساتين وما تحويه من أشجار وأنواع من الثمار والزروع التي تبهج الأنظار، وتميز الأدباء في وصف البيئة في كتبهم ومن بينهم ابن فضل في مؤلفه التعريف، حيث وصف فيه مرجًا أخضر واسع في وقت شروق الشمس ويقول:

” نزل بمرج كأنما فرش بالإستبرق، وطلع الصباح في ليلة المتراكم فأشرق، قد اتسع للرائد فيه مدى طرفه، وامتد إلى غايته أمد طرفه، وقد طرفه بزهر الربيع أوانه، وظل عليه قوس السماء فنفضت عليه الوانه، فما حل في أكنافه إلا أنكره خضرة العيش، وتبثه ومع هذا وثب به الطيش.”

وقد جاء لنا وصف الرياض والأزهار على شكل مقالات أدبية مثل مقالات ابن حبيب حيث يقول فيها:

” جد بي الوجد في إبان الربيع، إلى رؤية فضل الغيث بمنازل الربيع، فسرت لحدق في جوانب الحدائق، وصحبتي من الشوق وسائق، يتلوهن حادٍ وسائق، فإذا أنا بروضة أريضة، عيون أزهارها مريضة، قد فاح أرجها وأضاءت سرجها، وبرز إبريزها وحسن تطريزها، وأبدت من زينتها ما هو باللطاف منعوت.”

قد لجأ الكتّاب أيضًا إلى غاية الدقة في وصفهم من خلال أسلوب التشخيص، حيث نراهم يجعلون من الوردة ملكًا عظيمًا مُحاط بجنوده، وَالأشواك التي تحيط بالوردة ما هي إلا سلاح للملك، وصور النرجس بإنسان له عيون أهدابها من لجين، لم ينسى الكتّاب وصف البساتين وما تحويه من أشجار وثمار ومناظر فتّانة تطمح النفس إليها، ومن ذلك ما قاله ابن حبيب في وصف بستان:

” لما حددت مرآة الجنان، قصدن لجلائها بعض الجنان، فطرقت الباب فقيل من؟ فقلت فتى لا يدري من له فتن، ففتح الوصيد، ودنى المراد من المريد، فدخلت إليها وما كدت إن أقدم عليها، فإذا اجنو عالية، قطوفها داينة، وطلجها منضود، وظلها ممدود، وأعلام أشجارها مرفوعة، وفاكهتها كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة.”

وصف ظواهر الطبيعة الأندلسية

تعتبر الظواهر الطبيعية بما تشمل عليه من سماء وقمر وشمس وبحار وأنهار من المواضيع التي لجأ إليها كتّاب الأندلس، وصفوها بأجمل العبارات وأجادوا في هذا الوصف، وهذا يدل على اهتمامهم الكبير بكل شيء يدور من حولهم صغيره وكبيرة، لا يفوتهم شيء مما تقع أعينهم عليه، ولعل أشهر من وصف الظواهر الطبيعية هو ابن حبيب، قد وصف السماء التي تزينها النجو والأقمار حيث يقول:

” أيقضتني ليلة دواعي الهموم، فنظرت نظرت في النجوم، فإذا السماء كأنها روضة مزهرة، أو صرح كنس جواريه مسفرة، أو غدير تطفو عليه الفواقع، أو بنفسج نور أقامه لامع، أو مسح ألقى عليه درر غواص، أو ستر به لعين كل نجم وصواصأ أو جمر في خلال رماد.”

كما توجه الكتّاب إلى وصف الشمس والقمر بأجمل الوصوف، حيث وصفوها بالمصابيح لأهل النظر، وأنهن من آيات الخالق العظيم، ومن هؤلاء الكتّاب ابن فضل حيث قال:

” وقد طلعت الشمس الغائبة وحال الذهب في تلك البوتقه الذائبة، وأسفرت المخدرة، وطلعت تلك الشارقة المنورة، وأفلتت من شرك النجوم تلك الغزالة، وأقبات تحت قناع الشفق، وما عليها إلا غلالة.”

ومن أجمل الوصوف ما نجده من وصف الأيام والليل التي تعج بالصور الفنية العذبة، ومن ذلك ما كتبه ابن حبيب في وصف الليل حيث يقول:

” مقيم ليس يبرح وعاجز لا يظعن ولا ينزح، برد نجومه لا يذوب وغائب ضوئه ليس يؤوب، لا يبلى جديد مسحه، ولا يجنح إلى الحركة ساكن جنحه، عليله ما يرجى صلاحه، وصباحه لا لنصب الصيد.”

وما قاله ابن حبيب في وصف الأيام:

” الأيام نجمها غرار، ومدعي الوفاء منها غدار، كثيرة الملال، سريعة الزوال، تفرق الحبائب وتسترجع المواهب، ذمامها ذميم، ومسالمها سليم تحل العقود، ولا تحفظ العهود، تكدر الصافي من الشراب، وتَعِد الظامئ بورود الأسراب.”

كما تطرق الكتّاب إلى وصف فصول السنة، وجعلوا المناظرات الرائعة تدور بينها ويتفاخر فيها كل فصل بنفسه، وقد جعلوا من كل فصل عبارة عن إنسان يتكلم ببلاغة وطلاقة مفصح عن أجمل صفاته، ومن ذلك ما قال الربيع:

” أنا شاب الزمان وروح الحيوان وأنسان عين الإنسان، أنا حياة النفوس وزينة عروس الغروس، ونزهة الأبصار ومنطق الأطيار، عرف أوقاتي ناسم، وأيامي أعياد ومواسم، فيها يظهر النبات وتنشر الأموات، وترد الودائع، وتتحرك الطبائع، ويمرح جنيب الجنوب وينزح وجيب القلوب، وتفيض عيون الأنهار ويعتدل الليل والنهار”.

وينتقل بعد ذلك الكاتب إلى وصف فصل الصيف بتشخيصه، وجعله يتحدث عن مواقفه مع البشر مركزًا على صفاته ومزاياه حيث يقول:

” أنا الخل المواقف والصديق الصادق، وَالطيب الحاذق، أجتهد في مصلحة الأصحاب، وأرفع عنهم كلفة حمل الثياب، وأخفف أثقالهم وأوفر أحمالهم، وأكفيهم المؤونة وأجزل لهم المعونة، بي يتضح الجادة، وينضج من الفواكه المادة، ويزهو البسر والرطب، وينصلح مزاج العنب، ويقوى قلب اللوز ويلين عطف التين والموز.”

ومن بعدها يأتي دور الخريف ويوصفه لنا بطريقة مبهرة يعدد مناقبه، وما يعود على البشر بالفائدة منه وعلى غيره من المخلوقات فيقول:

” أنا سائق الغيوم وكاسر جيش الغموم وهازم الأحزاب السموم،  وحادي نجائب السحائب وحاسر نقاب المناقب، أنا أصد الصدى وأجود بالندى، وأظهر كل معنى جلى وأسمو بالوسمي والولي.”

وفي نهاية وصف الفصول يأتي دور فصل الشتاء وما يجلبه من خير كثير للبشر ويصف نفسه بأنه شيخ الفصول، وجامع الأصحاب حيث يقول:

” أنا شيخ الجماعة ورب البضاعة، والمقابل بالسمع والطاعة، أجمع شمل الأصحاب واسدل عليهم الحجاب، وأتحفهم بالطعام والشراب ومن ليس له بي طاقة أغلق من دونه الباب، ومن يعيش عن دكري ولم يمتثل أمري أرجفته بصوت الرعد، وانجزت له من سيف البرق صادق الوعد، وسرت باليه بعساكر السحاب”

وفي النهاية نستنتج أن وصف الطبيعة الأندلسية في كتب النثر قد فاق شعر الطبيعة وتغلب عليه، وبرز العديد من كتّاب الأندلس في هذا المجال وأفردوا رسائلهم ومقالاتهم الأدبية وَالمناظرات المبدعة في وصف الطبيعة الفتّانة.


شارك المقالة: