اقرأ في هذا المقال
- مفهوم الموت في الشعر الجاهلي
- مفهوم الموت في صدر الإسلام
- مفهوم الموت في العصر الأموي
- مفهوم الموت في العصر العباسي
- مفهوم الموت في الشعر المعاصر
برز هاجس الخوف من الفناء لدى البشر منذ القدم، كما وضحت جميع العقائد حال الأحياء بعد الموت وشارك الأدب بجميع أشكاله في التكلم عن الموت والفناء، وتباينت صوره لدى الأدباء في الأدب المشرقي، وفي هذا المقال سنتناول هذا الموضوع ونتكلم عن تحولاته ودلالاته في الشعر المشرقي عبر العصور.
مفهوم الموت في الشعر الجاهلي
يرتكز مصطلح الفناء في ذاك الزمن على معيشة القبيلة غير مستقرة والمصاعب التي تواجه البشر في هذه الصحراء وتتحكم بمصيره، وظل الجاهلي يمزج بين الموت والزمن الذي اعتبروه القاتل المجهول الذي لا يستطيع أي إنسان الإفلات منه، ومثال على صور الموت في ذاك العهد قول عبيد بن الأبرص عندما أحس بالموت يقترب منه لأن المنذر أصر على قتله فيقول:
فأبلغ بني وأعمامهم
بأن المنايا هي الواردة
لها مدة في نفوس العباد
عليها وإن كرهت قاصدة
فلا تجزعوا لحمام دنا
فللموت ما تلدُ الوالدة
كما نرى في مقطوعات الأدباء الجاهليين أنهم انقسموا لفريقين أحدهم يؤمن بالفناء دون وجود حياة أخرى، وفريق يؤمن بوجود حياة بعد مفارقة الدنيا سيبعث ويحاسب ونطم علاف بن شهاب التميمي:
ولقد شهدت الخصم يوم رفاعةٍ
فأخذت منه خطة المقتال
وعلمت أن الله جاز عبده
يوم الحساب بأحسن الأعمال
نرى أن ظاهرة الموت في الأدب القديم لها اتجاهين أحدهما موضوعي برز على لسان الأدباء الذي عرفوا بالحكمة حيث عاشوا التجارب التي من خلالها رأوا بالموت حقيقة مؤكدة لا مهرب منها، من أبرز هؤلاء الأدباء نذكر الأعشى والذيباني وزهير بن أبي سلمى، ومن مقطوعات الذيباني في ذلك:
فَلا تَبعَدَن إِنَّ المَنِيَّةَ مَوعِدٌ
عَلَيكَ فَدانٍ لِلطُلوعِ وَطالِعُ
أَعاذِلَ ما يُدريكَ إِلّا تَظَنِّيّاً
إِذا اِرتَحَلَ الفِتيانُ مَن هُوَ راجِعُ
تُبَكّي عَلى إِثرِ الشَبابِ الَّذي مَضى
أَلا إِنَّ أَخدانَ الشَبابِ الرَعارِعُ
أما الاتجاه الذاتي قد ظهر في أدب الشباب الذين عرفوا حقيقة الموت دون أن يعيشوا التجارب حيث كانت هذه الظاهرة هاجسًا يؤرقهم، ونرى طرفة بن العبد يتناولها في مقطوعاتِه ويرى أن على الإنسان أن يتمتع في هذه الحياة ويكثر من الشرب ومخالطة النساء ويلهو كما يشاء ويقول في هذه الظاهرة:
ولولا ثلاث هن من لذة الفتى
وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبق العاذلات بشربة
كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف محنبا
كسيد الغضا في الطخية المتورد
مفهوم الموت في صدر الإسلام
تبدلت الأحوال وتغيرت المعتقدات مع ظهور الإسلام وأصبحوا يرون في الحياة هبة من خالق للبشر أنشأهم فيها أمرهم بأعمارهم بالأعمال الصالحة، كما وضح لهم ظاهرة الموت في العديد من الدلائل القرآنية والسنة النبوية الشريفة، فنرى أن كتاب الله عج بالحقول الدلالية التي تدل على هذه الظاهرة.
كانت حقيقة الفناء ظاهرة كبرى تؤرق الأدباء وتثير مخاوفهم ونرى من خلال مقطوعاتِهم في تلك الفترة الرهبة والرعب الذي ينتابهم كلما تذكروا الموت، وعاشوا في صراع نفسي جراء هذا الخوف على أنفسهم واحبتهم ومثال عليه قول الخنساء:
ما لِذا المَوتِ لا يَزالُ مُخيفاً
كُلَّ يَومٍ يَنالُ مِنّا شَريفاً
مولَعاً بِالسَراةِ مِنّا فَما يَأ
خُذُ إِلّا المُهَذَّبَ الغِطريفا
تأثرت الخنساء جراء فقدها لأخيها الذي غيّبه الموت وظهر ذلك على أدبها الذي طغى عليه الرثاء والدموع على صخر وأصبحت الحياة سوداء في نظرها وسيطر الألم والبكاء على حياتها، ولبيد بن ربيعة كان عكس الخنساء مستسلم لهذه الحقيقة راضٍ بها ولا يتضجر جراء فقد لأخيه الذي قال فيه:
أَخشى عَلى أَربَدَ الحُتوفَ وَلا
أَرهَبُ نَوءَ السِماكِ وَالأَسَدِ
فَجَّعَني الرَعدُ وَالصَواعِقُ بِال
بفارِسِ يَومَ الكَريهَةِ النجد
مفهوم الموت في العصر الأموي
استمد رواد الأدب رؤيتهم عن الموت من الإسلام فرأوا أن للبشر قدر حتمي لا يمكنهم تبديله فالموت له مدة معينة وأجل محدود لا يمكنهم الهروب منه، ورغم ذلك سيطر عليهم الخوف من الفناء والانتقال للعقاب.
والتمعن في أدب ذلك الوقت يجد أن هذا القدر برز في ظاهرتين الأولى عند الخوارج الذين سلموا له ورضوا به حتى أنهم انتظروه وأصبحوا يرفضوا الحياة، ويرجع سبب ذلك للأحداث السياسية وخصوصًا بعد موت عثمان بن عفان ويقول قطري بن الفجاءة متحدثًا عن الموت مستسلمًا له:
أَقولُ لِنَفسي حينَ طالَ حِصارُها
وَفارَقَها لِلحادِثاتِ نَصيرُها
لَكِ الخَيرُ موتي إِنَّ في الخَيرِ راحَةً
فَيَأتي عَلَيها حَينُها ما يُضيرُها
فَلَو أَنَّها تَرجو الحَياةَ عَذَرتُها
وَلكِنَّها لِلمَوتِ يُحدى بَعيرُها
وَقَد كُنتُ أوفي لِلمُهَلَّبِ صاعَهُ
وَيَشجى بِنا وَالخَيلُ تُثنى نُحورَها
ونرى عند أغلب الأدباء تمنيهم للموت وخصوصًا عندما يخرج مقاتلًا في سبيل الله فيتجه في أبياته إلى تصوير الموت بالوحش الكاسر لكنه لا يخافه ويقول:
ومن يخشى أظفار المنايا فإننا
لبسنا لهن السابغات من الصبر
وإن كرية الموت عذبٌ مذاقه
إذا ما مزجناه بطيب من الذكر
وما رزق الإنسان مثل منيةٍ
أراحت من الدنيا ولم تُخز في القبر
والثانية لدى رواد الغزل حيث تكرر لفظ الموت في مقطوعاتِهم وذهب بعض العلماء إلى ربط هذه الحقيقة ونشأة هذا النوع من الأدب، إلى أن رواد الغزل العفيف يعانون جراء جفاء المحبوبة وابتعادها فيصبح العاشق يتمنى الفناء فبقربها الحياة وجفائها موت وسكون ومثال على هذا قول خطاب بن معمر:
أَلا تَتَّقينَ اللَهَ فيمَن قَتَلتِهِ
فَأَمسى إِلَيكُم خاشِعاً يَتَضَرَّعُ
فَإِن يَكُ جُثماني بِأَرض سِواكُمُ
فَإِنَّ فُؤادي عِندكِ الدَهرَ أَجمَعُ
مفهوم الموت في العصر العباسي
أثارت هذه الحقيقة جدل واسع على الرغم من الإيمان به وبوجوده فنرى رواد الأدب يختلفون في نظرتهم للموت، فمنهم من يرى فيه موعظة وتهذيب الذات من العبث وبذكره ترق القلوب وانتشر ذلك بين الزهاد وأيضًا آخرون استرسلوا في التأمل محاولين فهم هذه الحقيقة، وأبرز رواد الزهد في ذلك الوقت أبو العتاهية الذي كرر لفظ الموت في مقطوعاتِه وأنه قدر محتوم لا مفر منه ويجب ترك اللهو والعبث والتطهير واليقظة من أجل هذه اللحظة ويقول:
قُرِنَ الفَناءُ بِنا فَما
يَبقى العَزيزُ وَلا الذَليلُ
لا تَعمُرِ الدُنيا فَلَي
سَ إِلى البَقاءِ بِها سَبيلُ
يا صاحِبَ الدُنيا أَبِالدُ
نيا تُدِلُّ وَتَستَطيلُ
كُلٌّ يُفارِقُ روحَهُ
وَبِصَدرِهِ مِنها غَليلُ
كما يتحدث عن نهاية الطريق والمآل الذي ستنتهي إليه أفعال الإنسان ويشبه الموت بالطريق الذي يوصل لحياة أخرى ويقول:
والخير موعده الجنان
وظلها ورحيقها
والشر موعده لظا
وزفيرها وشهيقها
أما المتنبي فيقف حائرًا أمام الحياة والموت ويقول:
وَقَد فارَقَ الناسُ الأَحِبَّةَ قَبلَنا
وَأَعيا دَواءُ المَوتِ كُلَّ طَبيبِ
سُبِقنا إِلى الدُنيا فَلَو عاشَ أَهلُها
مُنِعنا بِها مِن جَيأَةٍ وَذُهوبِ
تَمَلَّكَها الآتي تَمَلُّكَ سالِبٍ
وَفارَقَها الماضي فِراقَ سَليبِ
كما نرى الموت في أدب المعري يحتل مساحة كبيرة وواضحة ولكن بنمط فلسفي والمتمعن في أبياته يتيقن بانصِرافه عن الدنيا ويشبهها بالحِصار والسجن المظلم ويقول:
مَوتٌ يَسيرٌ مَعهُ رَحمَةٌ
خَيرٌ مِنَ اليُسرِ وَطولِ البَقاءِ
وَقَد بَلَونا العَيشَ أَطوارَهُ
فَما وَجَدنا فيهِ غَيرَ الشَقاء
تَقَدَّمَ الناسُ فَيا شَوقَنا
إِلى اِتِّباعِ الأَهلِ وَالأَصدِقاء
ما أَطيَبَ المَوتَ لِشُرّابِه
إِن صَحَّ لِلأَمواتِ وَشكُ اِلتِقاء
مفهوم الموت في الشعر المعاصر
ظهرت ظاهرة الموت فيه عند ثلاث جهات الأولى: الرومانسي وأحد رواده عبد الرحمن شكري الذي أظهر الموت في قصائد مستقلة، وقد أكثر منها وذهب الباحثين إلى تسميت هذه الظاهرة في هذه الجهة إلى الموت الرومانسي أي الموت والفناء جراء بعد وجفاء المحبوبة وصعوبة اللقاء بها.
والثانية التي ربطت بين هذه الحقيقة والتاريخ الحضاري للمجتمع وتناولت فيه واقع الأمة المشرقية المتردي ومحاولتها للنهوض من جديد، وأبرز رواد هذا الاتجاه البياني وخليل حاوي وسميح القاسم والذي يردد:
يا فارس الموت ولا الخنوع
والموت من ورائنا
والموت من أمامنا
يا فارس الموت انتبه
وفي النهاية نستنتج إن ظاهرة الموت حقيقة تؤرق البشر منذ بدء الحياة، ولقد تأثر رواد الأدب على مر العصور بها وتناولها العديد من رواد الشعر في مقطوعاتِهم، ومنهم من كان يرى فيه واعظ له ومنبه ومنهم من رأى فيه نهاية لكل شيء ولا بعث ولا حساب بعده.