فلسفة الحكم والحياة التأملية في فلسفة أرندت

اقرأ في هذا المقال


في حكم حنة أرندت يستكشف جوناثان بيتر شوارتز طبيعة الحكم البشري، وهو موضوع المجلد الثالث المخطط له من كتاب حياة العقل لحنة أرندت والذي تُرك غير مكتوب وقت وفاتها، فتجادل شوارتز بأنّ التفسيرات السابقة لأرنت فشلت في تقدير المكانة المركزية للحكم في فكرها تمامًا، وتؤكد أنّ فهم أفكار أرنت لا يتطلب تفسير أعمالها المنشورة فحسب، بل يتطلب أيضًا إعادة بناء تفكيرها من مجموعة واسعة من المصادر بما في ذلك مقالاتها المختلفة ومحاضرتها وملاحظات الدورة والمواد غير المنشورة والمراسلات.

عندما تؤخذ هذه المصادر في الحسبان يتضح أنّ الحكم السياسي بالنسبة لأرنت هو الإجابة على سؤال كيف يمكن تحقيق الحرية البشرية في العالم الحديث، ويمكن العثور على إحدى المساهمات الدائمة لفكر أرنت السياسي في تأملاتها حول الحكم الذي كان سيشغل السنوات الأخيرة من حياتها، وإلى جانب نظرية الفعل تمثل نظريتها غير المكتملة في الحكم إرثها المركزي للفكر السياسي في القرن العشرين.

فلسفة أرندت في الحكم:

لم يتم تطوير نظرية أرنت في الحكم بشكل منهجي أو واسع النطاق مثل نظريتها في العمل، حيث كانت تنوي إكمال دراستها لحياة العقل من خلال تخصيص المجلد الثالث لكلية الحكم، لكنها لم تكن قادرة على القيام بذلك بسبب وفاتها المفاجئة في عام 1975.

ما تركته كان عددًا من التأملات المتناثرة في أول مجلدين عن التفكير والإرادة، وسلسلة من المحاضرات حول فلسفة الفيلسوف إيمانويل كانط السياسية التي ألقيت في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في خريف 1970 (محاضرات عن فلسفة كانط السياسية).

وكذلك مقالة بعنوان (التفكير والاعتبارات الأخلاقية)، والتي كتبت في الوقت الذي كانت تؤلف فيه حياة العقل، ومقالان متضمنان في (بين الماضي والمستقبل) حيث يتم التعامل مع الحكم والرأي في العلاقة بالثقافة والذوق (الأزمة في الثقافة)، وفيما يتعلق بمسألة الحقيقة (الحقيقة والسياسة).

ومع ذلك فإنّ هذه الكتابات لا تقدم نظرية موحدة للحكم بل نموذجين مختلفين، حيث أحدهما يعتمد على وجهة نظر الممثل والآخر على وجهة نظر المتفرج، وهما إلى حد ما على خلاف مع بعضهما البعض.

مراحل الحكم في فلسفة أرندت:

يمكن رؤية كتابات أرندت حول موضوع الحكم على أنّها تقع في مرحلتين متميزتين إلى حد ما:

1- إحداهما مبكرة يكون فيها الحكم هو كلية الفاعلين السياسيين الذين يتصرفون في المجال العام.

2- المرحلة اللاحقة يكون فيها امتياز المتفرجين غير المشاركين، من مثل الشعراء والمؤرخون بالدرجة الأولى الذين يسعون إلى فهم معنى الماضي والتصالح مع ما حدث.

في هذه الصياغة اللاحقة لم تعد أرنت مهتمة بالحكم على أنّها سمة من سمات الحياة السياسية على هذا النحو، مثل هيئة التدريس التي يمارسها الفاعلون من أجل تقرير كيفية التصرف في المجال العام، ولكن بالحكم كعنصر في حياة العقل، والقوة التي من خلالها يمكن للمشاهدين المتميزين استعادة المعنى من الماضي وبالتالي التصالح مع الوقت وبأثر رجعي مع المأساة.

بالإضافة إلى تقديمها لنا بنموذجين للحكم يتعارضان مع بعضهما البعض، فلم توضح أرنت حالة الحكم فيما يتعلق باثنين من مصادرها الفلسفية لأرسطو وكانط، حيث يبدو أنّ المفهومين يسحبان في اتجاهين متعاكسين وهما الأرسطي نحو الاهتمام بالذات، والكانطي نحو الاهتمام بالعالمية والحياد.

لذلك يبدو أنّ نظرية أرندت للحكم لا تتضمن فقط نموذجين الممثل الذي يحكم من أجل التصرف، والمتفرج الذي يحكم من أجل استبعاد المعنى من الماضي، ولكن المصادر الفلسفية التي تعتمد عليها هي إلى حد ما على خلاف مع بعضها البعض.

الحكم والحياة التأملية في فلسفة أرندت:

نشأ اهتمام أرنت بالحكم باعتباره كلية للتقييم بأثر رجعي يسمح باسترداد المعنى من الماضي، وذلك في محاولتها التصالح مع المآسي السياسية المزدوجة في القرن العشرين النازية والستالينية، وفي مواجهة أهوال معسكرات الإبادة وما يُعرف الآن بغولاغ (Gulag)، وهو نظام الذي تم الحفاظ فيه على معسكرات العمل في الاتحاد السوفياتي من عام 1930 إلى عام 1955 حيث مات الكثير من الناس.

فقد سعت أرنت لفهم هذه الظواهر بمصطلحاتها الخاصة، ولم تستخلصها من السوابق ولا تضعها في مخطط شامل للضرورة التاريخية، وهذه الحاجة إلى التصالح مع الأحداث الصادمة للقرن العشرين، وفهمها بطريقة لا تفسرها بعيدًا بل تواجهها بكل قوتها وبطريقة غير مسبوقة، وهو الأمر تعود إليه أرنت مرارًا وتكرارًا.

فلقد فشل الإطار الموروث للحكم وذلك بمجرد أن يتم محاولة تطبيقه بأمانة على التجارب السياسية المركزية في هذا العصر، كما أنّه حتى حكمنا المنطقي العادي أصبح غير فعال، وذلك لأننا نعيش في عالم مقلوب رأساً على عقب، أي عالم لا يمكننا أن نجد طريقنا فيه من خلال الالتزام بقواعد ما كان في السابق الفطرة السليمة.

وبالتالي فإنّ أزمة الفهم تترافق مع أزمة في الحكم بقدر ما يرتبط فهم أرنت ارتباطًا وثيقًا ومترابطًا بالحكم الذي يجب على المرء وصفه على أنّه استيعاب لشيء معين في ظل قاعدة عالمية، وبمجرد أن تفقد هذه القواعد صلاحيتها لن نتمكن من فهم التفاصيل والحكم عليها، أي أننا لم نعد قادرين على تصنيفها ضمن فئات الفكر الأخلاقي والسياسي المقبولة لدينا، ومع ذلك لا تعتقد أرنت أنّ فقدان هذه الفئات قد أنهى قدرتنا على الحكم.

لكن على العكس من ذلك بما أنّ البشر يتميزون بقدرتهم على البدء من جديد، فإنّهم قادرون على تشكيل فئات جديدة وصياغة معايير جديدة للحكم على الأحداث التي حدثت وتلك التي قد تظهر في المستقبل.

لذلك بالنسبة لأرندت فإنّ ضخامة الشمولية وغير المسبوقة لم تدمر بالمعنى الدقيق للكلمة في قدرتنا على الحكم، حيث بدلاً من ذلك لقد دمروا معاييرنا المقبولة للحكم وفئاتنا التقليدية للتفسير والتقييم سواء كانت أخلاقية أو سياسية، وفي هذه الحالة يكون الملاذ الوحيد هو مناشدة الخيال، مما يسمح لنا بالنظر إلى الأشياء من منظورها الصحيح والحكم عليها دون الاستفادة من قاعدة مسبقة أو عالمية.

بالنسبة إلى أرنت يمكّننا الخيال من خلق المسافة الضرورية لإصدار حكم محايد، مع السماح في نفس الوقت بالتقارب الذي يجعل الفهم ممكنًا، وبهذه الطريقة يجعل من الممكن مصالحتنا مع الواقع حتى مع الواقع المأساوي للقرن العشرين.

إنّ مشاركة أرندت في محاكمة أيخمان في أوائل الستينيات جعلتها تدرك مجددًا الحاجة إلى التصالح مع واقع كان في البداية يتحدى الفهم البشري، وكيف يمكن أن يرتكب مثل هذا الفرد العادي والملتزم بالقانون والبشر مثل هذه الفظائع؟ كما أجبرها تأثير المحاكمة على إثارة مشكلة أخرى تتعلق بالحكم، أي ما إذا كان يحق لنا الافتراض المسبق بهيئة تدريس بشرية مستقلة غير مدعومة بالقانون والرأي العام، وتحكم من جديد بعفوية تامة في كل عمل ونية كلما نشأت المناسبة.


شارك المقالة: