عرّفت سيمون دو بوفوار نفسها على أنّها فيلسوفة ومؤلفة ونسوية، وأخذت الأفكار الظاهراتية للجسد الحي ووضعت الحرية والقصدية والضعف بين الذات والمفاهيم الأخلاقية والسياسيةالوجودية للنقد والمسؤولية والعدالة في اتجاهات جديدة، كما كشفت تصنيفاتها عن الجنس الآخر والجنس الثاني القواعد الأبوية التي تم تجنيسها في المعطيات المسلمة لعالم الحياة، وفي ترجمة المفاهيم الظاهرية-الوجودية للتجاوز والحرية إلى أخلاقيات ناشطة للنقد والأمل والتحرر يستمر عملها في التأثير على الفينومينولوجيا والوجودية والنظرية والممارسة النسوية.
تحول أعمال بوفوار الفلسفية:
إنّ الطرق التي يتزايد من خلالها تحول الظواهر إلى الجسد أهمية متزايدة في عمل بوفوار، والطرق التي يؤدي بها هذا التحول إلى زيادة حساسية بوفوار للأمور المادية لحريتنا القائمة وقوة فئة الآخر، ويمكن تتبعها في انتباه بوفوار إلى مسألة محدودية الإنسان، وقد أثير هذا السؤال في وقت مبكر من روايتها كل الناس فانون (All Men Are Mortal) عام 1946.
وهذ الرواية هي قصة فوسكا الرجل الذي اختار خداع الموت، ومع ذلك فإنّ رغبته في الخلود مدفوعة برغبته في إدراك المثالية المجردة للإنسانية، فلا تتبنى فوسكا الخلود للهروب من غموض الجسد والتجسد، كما أنّ قراره مدفوع برغبته في إنقاذ العالم، ويعتقد أنّ الوقت هو عدوه طالما أنّ وقته محدود، وهو يعتقد أنّه مع الوقت الكافي يمكنه أن يأخذ مشروعًا إنسانيًا ويغلقه ويؤمنه من الفشل.
يتعلم فوسكا مع ذلك أنّه خلافًا لاعتقاده الأولي ويصبح الوقت عدوه عندما يمتد أمامه إلى ما لا نهاية، ولم يحن الوقت لأنّه يحتاج لتأمين رؤيته بل يحتاج إلى التزام الآخرين، ولا يوجد مقدار من الوقت يمكن أن يؤمن ذلك، وبصفته الخالدة يواجه فوسكا حتمية الفشل الذي يطارد البشرية، وعلى عكس البشر الذين يواجهون قيود الوقت ويتعاملون مع إخفاقاتهم بشغف يصبح فوسكا مشلولًا، فاللامبالاة بالحياة تحل محل شغف الحياة.
في النهاية يكتشف الحقيقة الجوهرية للعمل الأخلاقي من قبل حفيده المنقول لأجيال عديدة أرماند، ومن خلال إدراك أنّ المستقبل ملك للآخرين الذين قد يتولون أو لا يتولون مشاريعه، كما يلزم أرماند نفسه بالإمكانيات الملموسة للحاضر، ويتجسد شغفه في جاذبيته للآخرين وليس في هدف مجرد مهما بدا ظاهريًا من شأنه أن يحرم الأجيال القادمة من حق تقرير مصيرها.
في رواية كل الناس فانون يتعلق إعطاء المحدود والموت بعلاقتنا بالوقت، ولكن بعد ثمانية عشر عامًا كتبت عن الموت وموت والدتها في كتاب (الموت السهل جدًا) في عام 1964، وبعد ست سنوات من ذلك بتحليل وضع المسنين في سن الرشد عام 1970، وإحدى عشرة سنة بعد ذلك تأريخًا لأيام سارتر الأخيرة في فراق: وداعًا سارتر (Adieux: A Farewell to Sartre) اكتشفت إنّه لا يتعلق الأمر بعلاقتنا بالوقت بقدر ما يتعلق الأمر بتجسيدنا الذي يهم بوفوار.
في كتابيها (الموت السهل جدًا) و(الفراق) تفترض بوفوار موقف الشاهد الفينومينولوجي، ويتم تسليم جثتي والدتها وسارتر إلينا في كل انهيارها وتدهورها المزعج، ووجد البعض هذه الأعمال باردة وغير حساسة وحتى قاسية، وإنّ هذين العملين يفتقدان وجهة نظر بوفوار.
كما إنّ بوفوار تبين لنا من نحن، فجسدت كلمة (أستطيع) التي كشف عنه علماء ظواهر آخرون كعلامة حاسمة للتجسيد هو الحالة المحدودة للجسم السليم الناضج، وإنّها ليست سوى مرحلة واحدة من حياة الجسد، ففي أيامه الأولى لا يزال الجسد يتعلم (أنا أستطيع)، ومع تقدمنا في العمر يبدأ الجسم في فقدانها وإنّه شيء واحد كما هو الحال مع أسطورة المرأة أن تنفر (أنا أستطيع) من قدراتها، وإنّ رفض الاهتمام بمجموعة كاملة من الحياة المجسدة وتقييم قيمة تلك الحياة من حيث إمكانياتها هو أمر آخر تمامًا.
كتاب مجيء العمر:
نحن بحاجة إلى قراءة كتاب (الموت السهل جدًا) و(الفراق) في سياق تحليلات مجيء العمر (The Coming of Age) لنقدر تمامًا دور بوفوار كشاهد، فمشروع مجيء العمر مشابه لمشروع الجنس الثاني، فهو مثل الجنس الثاني لإنّه يركز على مجموعة من الأشخاص المعينين على أنّهم آخرون، ومثل الجنس الثاني لإنّه يكشف الوضع الأسطوري للحقائق حول الشيخوخة وكبار السن، ومثل الجنس الثاني لأنّه يوجه الاتهام إلى المجتمع بسبب تجريده من الإنسانية لأولئك الذين يعتبرهم الآخرون.
يحاكي ظهور العمر أيضًا الجنس الثاني في منهجه ونطاقه، حيث إنّه يدرب عدسة ظاهرية على العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية لفهم ظاهرة الآخر المهمش، ولكن من نواحٍ عديدة تصحح مجيء العمر ما تراه بوفوار عيبًا في الجنس الثاني.
في تأملها في الجنس الثاني تقول بوفوار إنّها لو كتبت ذلك مرة أخرى فإنّها ستولي اهتمامًا أقل للقضية المجردة للوعي والمزيد من الاهتمام بالظروف المادية للندرة، وعلى الرغم من أنّه من المستحيل تحديد شكل النسخة المنقحة من الجنس الثاني إلّا أنّ مجيء العمر يعطينا فكرة عن كيفية قراءتها، فلا يوجد حديث هنا عن كبار السن، فتذكرنا بوفوار أنّ الشيخوخة هي مصيرنا العالمي.
وتخبرنا بوفوار أنّ معناها المعيشي خاص بأوضاعنا التاريخية والطبقية والثقافية حيث يحدد الجنس الثاني الطرق التي تخفي بها أسطورة المرأة تنوع النساء ولا يبدو أنّها ترى أنّ فئة واحدة من الآخر غير الأساسي قد لا تلتقط المعاني المتنوعة لأوضاع المرأة، فإنّ مجيء العمر تواصل توضيح النقطة التي إذا تحدثنا عن الشيخوخة كفئة عالمية فسوف نفوت الاختلافات الجوهرية بين كبار السن التي تخفيها أساطير وصور الشيخوخة.
بمقارنة وضع المسن مع وضع المرأة كإمرأة تلاحظ بوفوار أنّ كلاهما يشغل موقع الآخر وأنّ كلاهما خاضعين لقوى البيولوجيا الأسطورية الاستغلالية، وعلى الرغم من أنّ مجيء العمر يولي اهتمامًا أكبر للتنوع الكامن وراء الأساطير الموحدة ويعمل بمفهوم مختلف إلى حد ما عن الآخر، إلّا أنّه يبدو مشابهًا بشكل ملحوظ للجنس الثاني لأنّه يتتبع مصادر الحالة الهامشية للمسنين.
بينما اتهم الجنس الثاني النظام الأبوي بحرمان النساء من وضعهن كموضوع عن طريق منعهن من المشاركة في المشروع والتقليل من قيمة التجربة الجسدية للشهوة الجنسية، يجادل مجيء العمر بأنّ حالة عدم الخضوع للمسنين والتي يمكن إرجاعها إلى حقيقة أنّهم ممنوعون من مشاريعهم وإمكانياتهم المثيرة، وتكتب بوفوار أنّ: “الرجل العجوز ينظر إلى الأعضاء النشطين في المجتمع وكأنّه واحد من الأنواع المختلفة لأنّه لا يشارك في مشروع”.
مثل الجنس الثاني الذي حضر معطيات البيولوجيا دون السماح لهم بتحديد معنى الموضوع فإنّ مجيء العمر يعطي علم الأحياء حقه، وتلاحظ بوفوار أنّ عدم مشاركة المسنين مفروض جزئيًا من الخارج ويأتي جزئيًا من الداخل، وذلك لأننا مع تقدمنا في العمر يتحول الجسد من أداة تُشرك العالم في عائق يجعل وصولنا إلى العالم أمرًا صعبًا.
لكن المغزى من كتاب مجيء العمر هو أنّه من الظلم استخدام هذه الصعوبات لتبرير تخفيض المسنين إلى مرتبة الآخر، فتوضح مشاهدة كتاب الفراق هذه النقطة بوضوح، وعلى الرغم من تضاؤل جسد سارتر إلّا أنّه لم يفصله عن مشاريعه، ولم يكن بإمكانه الاستمرار في عمله بنفسه لكنه كان في وضع يرفض فيه الآخرون تهميشه، ولم يساووا بين قدراته الجسدية المتناقصة والإنسانية المتضائلة، ويجادل كتاب مجيء العمر بأنّ وضع سارتر المتميز يجب أن يكون مصيرنا المشترك.
في عالم يدرك حقيقة الجسد الفينومينولوجي والحقيقة الوجودية للحرية وحقيقة الاستغلال الماركسي والحقيقة الإنسانية للرابطة سيتم القضاء على التصنيف المهين للآخر، ولن يجد كبار السن ولا النساء ولا أي شخص بسبب عرقهم أو طبقتهم أو دينهم أنفسهم غير ضروريين، بحيث تعرف بوفوار أنّ الأمل في عالم كهذا أكثر من اللازم، وإنّها تتفهم إغراءات الهيمنة والعنف، ولكن طوال حياتها المهنية استخدمت الأدوات الفلسفية والأدبية للكشف عن إمكانيات مثل هذا العالم وناشدتنا للعمل من أجله.