فلسفة دولوز في تاريخ الفلسفة

اقرأ في هذا المقال


يمكن تتبع مسار الفيلسوف جيل دولوز الفكري بالكامل من خلال تحول علاقته مع تاريخ الفلسفة، حيث في السنوات اللاحقة أصبح شديد النقد لكل من أسلوب الفكر المتضمن في النسخ الضيقة للمفكرين السابقين والضغوط المؤسسية للتفكير على هذا الأساس، فلم يفقد دولوز أبدًا أي حماس لكتابة الكتب عن الفلاسفة الآخرين وإذا كان بطريقة جديدة، وتحتوي معظم منشوراته على اسم فيلسوف آخر كجزء من العنوان لكل من هيوم وكانط وسبينوزا ونيتشه وبيرجسون ولايبنيز وفوكو.

دولوز ومشاكل لأسلوب التقليدي والموقع المؤسسي:

يعبر دولوز عن مشكلتين رئيسيتين في الأسلوب التقليدي والموقع المؤسسي لتاريخ الفلسفة:

1- النقد الأول يتعلق بسياسة التقليد حيث تتعرض هيمنة الفكر للهجوم بشكل متكرر في وقت لاحق في مسيرة دولوز، لا سيما في ما هي الفلسفة؟ ويتوافق هذا النقد جيدًا أيضًا مع موضوع عام في جميع كتاباته وهو التسييس الفوري لكل الفكر، ولا تنفصل الفلسفة وتاريخها عن ثروات العالم الأوسع، وبالنسبة لدولوز بل ترتبط به ارتباطًا وثيقًا وبالقوى العاملة هناك.

2- النقد الثاني الموجه إلى النمط التقليدي لتاريخ الفلسفة وبناء المتخصصين والخبرة، حيث يقود مباشرة إلى الجانب الإيجابي الأول لمنهج دولوز الخاص، حيث بالنسبة لفكر دولوز فإنّه من الواجب التوقف عن السماح للفلاسفة بالتأمل في الأشياء وذلك لأنّه برأيه الفيلسوف يخلق ولا يقوم بالتفكير، وربما لا تبدو مثل هذه الطريقة إبداعية للغاية أو ربما فقط بمعنى سلبي نسبيًا، ولكن بالنسبة لدولوز فإنّ تاريخ الفلسفة يتضمن أيضًا معنىً أكثر نشاطًا وبناءً، حيث يخبرنا دولوز أنّه يجب القيام بكل قراءة لفيلسوف أو فنان أو كاتب، من أجل توفير قوة دافعة لخلق مفاهيم جديدة غير موجودة مسبقًا.

وهكذا فإنّ الأعمال التي يدرسها دولوز ينظر إليها على أنّها ملهمة، ولكن أيضًا كمصدر يمكن للفيلسوف أن يجمع منه المفاهيم التي تبدو أكثر فائدة ويعطيها حياة جديدة، جنبًا إلى جنب مع القوة لتطوير مفاهيم جديدة غير موجودة مسبقًا.

بمعنى مهم تستند طريقة عمل دولوز بأكملها في إعادة التقييم هذه لدور المفكرين الآخرين، والوسائل التي يمكن للمرء استخدامها، حيث إما أن يركز كل كتاب من كتبه حول فيلسوف واحد أو يستمد الكثير من تركيبته من إشارات إلى الآخرين، وعلى أي حال يتم اشتقاق المفاهيم الجديدة من أعمال الآخرين أو يتم إعادة إنشاء المفاهيم القديمة أو إيقاظها ووضعها في خدمة جديدة.

تاريخ الفلسفة وفكر كانط:

كتاب دولوز عن الفيلسوف إيمانويل كانط حيث كان إصداره الثالث عام 1963 بشكل عام يتوافق مع معايير الدراسة الفلسفية الأكاديمية، وبصرف النظر عن اتساعها المثير للدهشة حيث تغطي جميع نقد كانط الثلاثة في حجم صغير، فإنّها تركز على مشكلة من الواضح أنّها تهم كل من كانط نفسه والقراءة التقليدية لعمله وهي العلاقة بين الكليات، ودولوز نفسه فيما بعد يفكر في فلسفة كانط النقدية ويميزها عن الدراسات التاريخية البنائية الأخرى.

ومع ذلك هناك بعض العناصر الإبداعية المميزة حتى في هذه الدراسة الرصينة على ما يبدو، والتي تعكس اهتمامات دولوز العامة واثنان على وجه الخصوص، كما تكشف بعض النصوص لدى كانط بأنّ هذه الأشياء عن نفسها عن طريق التأكيد وبدلاً من الخلق الكامل، حيث أولها تأكيده على رفض كانط للتعالي في نقاط رئيسية في النقد لصالح براغماتية عامة للعقل.

بينما حدد دولوز نفسه في كانط تطور مفهوم المتعالي في جذور الفلسفة الحديثة، فإنّه سريع الإصرار على أنّه حتى مع وجود كليات متعالية في كانط فإنّ الفهم والعقل والخيال لا يتصرف إلّا بطريقة جوهرية، إذن يصر دولوز على النشاط النقدي لفلسفة كانط ليس فقط باعتباره نقدًا للعقل مستخدمًا بشكل خاطئ، ولكنه يحدد هذا النقد بعبارات براغماتية وتجريبية.

السمة الدولوزية الثانية لفلسفة كانط النقدية هي إصرارها على الطبيعة الإبداعية والإيجابية لنقد الحكم، وهذا يتعارض ليس فقط مع عدد من علماء كانط الذين يقترحون أنّ النقد الثالث هو عمل منشق نتيجة لعمر كانط وقدراته العقلية المتدهورة عندما كتبه، ولكن أيضًا مع فلاسفة فرنسيين بارزين آخرين من جيل دولوز، ولا سيما جان فرانسوا ليوتار وجاك دريدا، وكلاهما يعتبر هذا النص في المقام الأول من حيث طبيعته (aporetic).

دولوز على العكس من ذلك يصر على أهميته المركزية لفلسفة كانط، كما إنّه يجادل ليس فقط في وجود صراعات بين نشاط الكليات، وبالتالي بين أول نقدين وهي نقطة خلافية في قراءة كانط ولكن أنّ نقد الحكم يحل هذه المشكلة (بالفعل منظور مثير للجدل) من خلال طرح نشأة من التوافق الحر بين الكليات أعمق من صراعاتهم، ولا يقتصر الأمر على أنّ الصراعات بين الكليات ليست غير قابلة للحل حيث هناك في الواقع إنشاء مؤكد لقرار لا يعتمد على أي قوة متعالية.

تاريخ الفلسفة وفكر لايبنيز:

عندما ننتقل إلى التفكير في نص لاحق من كتاب الطية: لايبنيز والباروك نجد أنّ ممارسة دولوز البنائية لتاريخ الفلسفة قد تطورت إلى أقصى حد، وهذا النص ليس مجرد صورة لفكر لايبنيز، ولكنه يستخدم مفاهيم مستمدة منه، جنبًا إلى جنب مع مفاهيم جديدة تستند إلى أخذ فلسفي للرياضيات والفن والموسيقى لتمييز فترة الباروك والعكس صحيح بالفعل.

يجادل دولوز أنّ لايبنيز هو الفيلسوف الذي يمكن استخدام وجهة نظره بشكل أفضل لفهم فترة الباروك، وتمنحنا العمارة والموسيقى والفن الباروكي وجهة نظر فريدة ومضيئة لقراءة لايبنيز،ففي الواقع من أكثر الادعاءات المذهلة التي يدلي بها دولوز أنّه لا يمكن فهم أحدهما بشكل صحيح دون الآخر هو أنّه من المستحيل فهم الأحادية والتفردية للايبنيز، ونظام الديكور الداخلي لوجهة نظر المرآة الخفيفة إذا لم نتصالح مع هذه العناصر في العمارة الباروكية.

كيف يتم إظهار مثل هذا البيان؟ حيث بدلاً من الادعاء بوجود رابط مسبق بين لايبنيز والباروك فقد ابتكر دولوز مفهومًا جديدًا وقرأ كلاهما من خلاله حيث هذا هو مفهوم الطية، تماشيًا مع نظرية لايبنيز عن الأحادي أنّ الكون كله موجود داخل كل كائن مثل الكنيسة الباروكية، كما يجادل دولوز بأنّ عملية الطي تشكل الوحدة الأساسية للوجود.

في حين أنّ هناك عناصر من الطية بالفعل في لايبنيز والعمارة والفن في تلك الفترة كما يشير دولوز، فإنّها تكتسب اتساقًا وأهمية جديدة عند استخدامها كمصطلح إبداعي بهذه الطريقة، وفي جميع أنحاء الكتاب ولاحقًا في فوكو، استخدم دولوز مفهوم الطية لوصف طبيعة الذات البشرية باعتبارها الذات الخارجة من الداخل حيث ذات جوهر سياسي واجتماعي ومضمون.

بالإضافة إلى ذلك في كتاب الطية نرى مقطعًا عرضيًا رائعًا لعمل دولوز بأكمله معبرًا عنه بطريقة جديدة من خلال المواد التي يحللها، ويقدم الفصلان 4 و 6 صياغة موجزة للعلاقة بين الحدث والموضوع (أحد اهتمامات دولوز الدائمة)، مما يؤدي إلى صياغة جديدة لطبيعة السبب الكافي بما يتماشى مع مفهوم دولوز للافتراضي، كما نرى أيضًا عودة لمسألة الجسد التي يفحصها مع غوتاري في الرأسمالية وانفصام الشخصية، وفي قسم امتلاك جسد الذي يعيد عمل لايبنيز على مستوى المادة بدلاً من عالم المثالية.

وهكذا يقدم دولوز قراءة لايبنتز تصدم القارئ على أنّها غريبة الأطوار وبالتأكيد تتعارض مع النهج التقليدي، ومع ذلك فهي تتمسك بكل من النص (في جميع دراساته التاريخية يستشهد دولوز بشكل شامل) وإلى الاتجاه الجديد الذي يعمل فيه.


شارك المقالة: