فن المناظرة في العصر الأموي

اقرأ في هذا المقال


للمناظرة دور واضح في تأثير الكلمة في المجتمعات والتراث العربي يزخر بالحوارات والمناظرات التي نشأت بين الأدباء والعلماء ورجال الدين أيضًا، والمناظرة تخضع لأسس معينة وقواعد تنظم هذه العلمية الأدبية، وفي هذا المقال سنوضح المناظرة التي ازدهرت بشكل واضح في العصر الأموي نتيجة للأحداث التي دارت في تلك الفترة.

تعريف فن المناظرة

تُطرح المناظرة بشكل عام أمام مجموعة من الأشخاص بنمط محاورة وجدال يدور بين الطرفين أو مجموعتين، ويكونوا على قدر عالي من المعرفة والعلم وحسن الحديث عن موضوع ما.

ترتكز المناظرة على رأيين متضادين يعارض أحدهما الآخر في قضية ما، وتكون بطريقة جدال بين الطرفين لكلٍ منهم رأيه المختلف عن الآخر، فالمُناظرة جدال يدور بين طرفين متكملين حول مشكلة أو موضوع معين، ويبذل كل طرف جهده حتى يثبت وجهة نظره، والدفاع عنها بشتى الطرق العلمية والأدبية مستعملاً الحجج من أجل تحقيق هدفه والتمكن من إقناع المالقين، وإقناع الطرف المشارك في المناظرة.

ومن هنا يتبين أن المناظرة ليست نقاش هادف، بل هي نمط محاججة له قواعد معينة يجب التقيد بها، ولها ثوابت محددة تحكم طريقتها وشكلها، والمناظرة تحتاج إلى موضوع أو قضية معينة حتى يقوم فيها الطرفين بالمناظرة، وطرف يدعم الموضوع ويسانده وطرف يعارضه ويخالفه.

تاريخ فن المناظرات

المناظرة أسلوب نثري قديم تصل جذوره في أعماق التاريخ، ولقد وضع لنا القرآن الكريم قواعد هذا النمط، وأكد للجميع أن المناظرة والمناقشة هي أرقى طرق النقاش والإقناع، ومن المناظرات التي قدمها التاريخ لنا الحديث الذي دار بين الرسل وأقوامهم.

والمناظرة لها تواجد في الفلسفة اليونانية، حيث أوجد أرسطو ما عُرف بأسلوب الحوار والجدال وأخذها العرب عنهم فيما بعد.

فن المناظرة في العصر الأموي

جرت في الفترة الأموية العديد من المُجريات التي انعكست على الحياة الثقافية والدينية في تلك الفترة، وقامت المناظرات على تصوير هذه المجريات في هذه المرحلة، وتعد موسوعة تاريخية تحمل في طياتها العديد من الأخبار، وهناك مجريات ساهمت في ازدهار المناظرة في هذه الفترة  وهي ما يلي:

1- المجريات السياسية: كان للأحداث السياسية التي تجري داخل الدولة أو خارجها دور في تطور المناظرات، مثال على الأحداث السياسية في تلك المرحلة ما دار بين معاوية وبين الحسن، حيث ترك الحكم لمعاوية خوفًا من إراقة الدماء على أن يستلمها من بعده، ولكن معاوية أخلف في الاتفاق واستخلف ولَدَه يزيد ومن خلال هذه القضية الداخلية جرت مناظرات عديدة بين علي بن أبي طالب ومعاوية.

2- المجريات الدينية: حدثت هذه المجريات نتيجة تعدد المذاهب في هذه الفترة، وكان لكل مذهب مجموعة من الآراء التي تتعارض مع المذاهب الأخرى مما دفع إلى انتشار المناظرات والحوار في أمور العقائد الدينية.

3- المجريات الأدبية: حدثت هذه المجريات بسبب الخروج من البيئة الحجازية إلى الشام وبذلك اختلطت الشعوب والثقافات، واختلطوا بالعجم الذي كان لهم دور في تطور المناظرة وخصوصًا أن المناظرة جذور فلسفية يونانية، وتمكنت المناظرات من الوصول إلى أهل الشعر ومنها مناظرة جرير والفرزدق وشاركهم بهذا الجدال الاخطل.

أهداف المناظرة في العصر الأموي

1- إثراء روح البحث بين الدارسين ودفعهم لاقتنائهم المعلومات المتنوعة.

2- تجديد مهارات التفكير والفهم، واستخراج الحقائق من قبل المتلقي.

3- تحديث أساليب الحوار والخطابة وكذلك المقدرة على البديهة.

4- إذكاء الثَّروة الثقافية والأدبية وتوظيفها في طرح الرأي والدفاع عنه بالحجج والبراهين.

شروط المناظرة في العصر الأموي

1- الابتعاد قدر المستطاع عن الأحكام التعسفية حول المشاكل والمواضيع العامة، واستخدام أسلوب منطقي سليم.

2- التجديد من قبل المتناظرين عن التعصب المُجحف للرأي ويجب الحوار مع الطرف الآخر والإنصات له واحترامه وتقبل آرائه.

3- الالتزام بالكلام الجيد مبتعدًا عن السخرية والتهكم من رأي الجهة المقابلة.

4- التمرن على أسلوب الحوار والجدال والالتزام بآدابه.

5- التقيد بالأساليب الصحيحة في الإقناع مثل تقديم البراهين المقنعة وعدم تعارض هذه البراهين فيما بينها.

6- الإلمام بالموضوع الذي تتمركز حوله المناظرة قبل الخوض في التناظر، ولقد أورد لنا الإمام الشافعي شروط المناظرة وآدابها قائلاً:

إذا ما كنت ذا فضلٍ وعلم

بما اختلف الأوائل والأواخر

فناظر من تناظر في سكونٍ

حليمًا لا تلحُّ ولا تكابر

يفيدك ما استفاد بلا امتنان

من النكتِ اللطيفةِ والنوار

وإياك اللجوج ومن يرائي

بأني قد غلبت ومن يفاخر 

فإن الشرَّ في جنباتِ هذا

يمني بالتقاطع والتدابر

أهم عناصر المناظرة في العصر الأموي

1- طريقة المنهج الذي يتبناه المتناظر للتعبير عن رأيه، ويكون ذلك من خلال أسلوب تناول القضية المطروحة لتناظر والحل المطروح لإنهاء المشكلة، وفي الخاتمة الوصول إلى النتيجة المدعومة بالحجج.

2- الموضوع المطروح والذي يدور حوله الخلاف أو الجدال، وتختلف القضايا من مناظرة إلى أخرى فمنها ما يهتم بأمور المجتمع، ومنها ما يحوم حول فلسفات عامة وغيرها من المواضيع، فالمُناظرة تتنوع بتنوع الموضوع، وعن ذلك قال الحطيئة:

فإنك خيرٌ من الزِّبرِقان

أشدُّ نِكالاً وأرتجى نوالا

تحنَّن عليَّ هداك المليك

فإن لكل مقامٍ مقال

ولا تأخذنّي بقول الوُشاةِ

فإن لكلٍ زمانٍ رجالا

فإن كان ما زعموا صادقًا

فيسقن إليك نسائي رجالا

3- الحجة والدلائل المفتعلة والهدف منها تأكيد صحة رأيه، ويجب أن تكون الأدلة مقنعة مبينة على أسس علمية مؤيدة لبعضها، والهدف منها إقناع المستمع برأيه ووجهة نظره.

مقتطف من أحد المناظرات في العصر الأموي

” التفت معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة فقال: يا معشر الانصار ما لكم لا تستقبلوني مع إخوانكم من قريش؟

فقال قيس وكان سيد الأنصار وابن سيدهم : أقعَدنا يا أمير المؤمنين أنْ لم تكن لنا دواب.
قال معاوية فأين النواضح؟

فقال قيس: أفنيناها يوم بدرٍ ويوم أحدٍ وما بعدهما في مشاهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ حين ضربناك وأباك على الإسلام حتى ظهر أمر الله وأنتم كارهون.
قال معاوية: الّلهم غفرا.

قال قيس: أما إن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال: سترون بعدي أثرة.
ثم قال: يا معاوية تعيّرنا بنواضحنا، والله لقد لقيناكم عليها يوم بدر وأنتم جاهدون على إطفاء نور الله، وأن تكون كلمة الشيطان هي العليا، ثم دخلت أنت وأبوك كُرها في الإسلام الذي ضربناكم عليه.

فقال معاوية: كأنّك تمن علينا بنصرتك إيّانا، فلّله ولقريش بذلك المن والطول، ألستم تمنون علينا يا معشر الأنصار بنصرتكم رسول الله وهو من قريش، وهو ابن عمنا ومنا، فلنا المن والطول أن جعلكم الله أنصارنا وأتباعنا فهداكم بنا.”

وفي النهاية نستنتج أن للمناظرة دور بارز في التأثير على المجتمعات، وكان التراث العربي وخصوصًا في العهد الأموي يزخر بالعديد من المناظرات التي واكبت مجريات تلك الفترة، وكانت بمكانة موسوعة تاريخية تنقل للأجيال الأحداث التي جرت في تلك الفترة.


شارك المقالة: