الفلسفة اليونانية القديمة والشك الأكاديمي

اقرأ في هذا المقال


على الرغم من أنّ جميع المتشككين بطريقة ما يشككون في قدرتنا على اكتساب المعرفة بالعالم، فإنّ مصطلح (المتشككين) يغطي في الواقع مجموعة واسعة من المواقف، وتوجد عناصر متشككة في آراء العديد من الفلاسفة اليونانيين، ولكن مصطلح (المتشككون القدامى) يتم تطبيقه عمومًا إمّا على عضو في أكاديمية أفلاطون خلال فترة الشك (273 قبل الميلاد إلى القرن الأول قبل الميلاد) أو على أحد أتباع بيرهو (365 إلى 270 قبل الميلاد).

أركسيلاوس:

بعد وفاة أفلاطون عام 347 قبل الميلاد أصبح ابن أخيه سبيوسيبوس رئيسًا للأكاديمية، ثم تلاه الفيلسوف زينوفون وبعده بوليمو ثم كراتس، حيث كانت جهود الأكاديميين خلال هذه الفترة موجهة إلى حد كبير نحو تطوير الميتافيزيقيا الأفلاطونية الأرثوذكسية، وعندما مات كراتس حوالي 272 قبل الميلاد أصبح أركسيلاوس من البيتان حوالي عام 318 إلى عام 243 قبل الميلاد الرئيس السادس للأكاديمية.

ويعد سقراطيدس عضو آخر في الأكاديمية الذي كان على ما يبدو في طابور المنصب والذي استقال لصالح أركسيلاوس، ولذلك يبدو أنّه كان موضع تقدير كبير من قبل أسلافه على الأقل في وقت تعيينه.

المبتكر الأفلاطوني:

وفقًا لديوجينيس لايرتيوس كان أركسيلاوس أول من جادل على جانبي السؤال، وأول من تدخل في النظام الأفلاطوني التقليدي (أو الخطاب والشعارات) وعن طريق السؤال والجواب، لجعله أكثر من مسابقة المناظرة، من المؤكد أنّ ديوجين مخطئ في كون أركسيلاوس أول من يجادل في كلا الجانبين في السؤال، وكانت هذه ممارسة طويلة الأمد في الخطاب اليوناني تُنسب عمومًا إلى السفسطائيين، ولكن أركسيلاوس كان مسؤولًا عن تحويل أكاديمية أفلاطون إلى شكل من الشك، وربما كان هذا الانتقال مدعومًا بقراءة مبتكرة لكتب أفلاطون والتي امتلكها واحتفظ بها باحترام كبير.

ملاحظة ديوجين أنّ أركسيلاوس تدّخل في نظام أفلاطون وجعله أكثر من مجرد مسابقة نقاش يشير إلى موقف نقدي تجاه ابتكاراته، ويبدو أنّ ديوجين (أو مصدره) اعتقد أنّ أركسيلاوس خان روح الفلسفة الأفلاطونية بتحويلها إلى شك، ومن ناحية أخرى ذكر شيشرون بنبرة موافقة أنّ أركسيلاوس أعاد إحياء ممارسة سقراط التي اعتبرها مماثلة لممارسات أفلاطون.

كان سقراط معتادًا على استخلاص آراء أولئك الذين كان يتجادل معهم من أجل التعبير عن وجهة نظره كرد على إجاباتهم، ولم يحافظ خلفاؤه على هذه الممارسة، ولكن أركسيلاوس أحياها ووصف أنّ أولئك الذين يريدون الاستماع إليه لا ينبغي أن يطرحوا عليه أسئلة بل أن يذكروا آراءهم الخاصة وعندما فعلوا ذلك جادلهم ضدهم، ولكن مستمعيه قدر استطاعتهم سيدافعون عن آرائهم.

كان أركسيلاوس قد اشتق (بشكل انتقائي) الدرس من محاورات أفلاطون أنّه لا يمكن معرفة أي شيء على وجه اليقين سواء بالحواس أو بالعقل، حتى أنّه رفض قبول هذا الاستنتاج لذلك لم يدعي أنّه يعرف أنّه لا يمكن معرفة أي شيء.

الهجوم على الرواقيين:

بشكل عام كان الرواقيون الهدف المثالي للمشككين، ولأنّ ثقتهم في مجالات الميتافيزيقا والأخلاق ونظرية المعرفة كانت مدعومة بمجموعة معقدة ومتطورة من الحجج، وكلما كان تبرير بعض النظرية أقوى كان تفنيدها المتشكك أكثر إثارة للإعجاب، وكانوا أيضًا هدفًا جذابًا بسبب بروزهم في العالم الهلنستي.

وقد استهدف أركسيلاوس بشكل خاص مؤسس الرواقية زينو لدحضه، حيث ادعى زينو بثقة ليس فقط أنّ المعرفة ممكنة ولكن لديه حساب صحيح لماهية المعرفة، وكان على استعداد لتعليم هذا للآخرين، وأساس هذا الحساب هو مفهوم (katalêpsis): استيعاب عقلي لانطباع حاسم يضمن حقيقة ما يتم إدراكه.

كما أنّه إذا وافق المرء على الاقتراح المرتبط بالانطباع التحفيزي أي إذا كان المرء يعاني من (katalepsis) فلا يمكن أن يكون الاقتراح المرتبط به صحيحًا، وإن الحكيم الرواقي باعتباره كمال الطبيعة البشرية وإشباعها فهو الشخص الذي يوافق فقط على الانطباعات المحفزة وبالتالي فهو معصوم من الخطأ.

جادل أركسيلاوس ضد إمكانية وجود أي انطباعات منطقية لا يمكن أن نخطئ فيها، وبذلك مهد الطريق لهجمات أكاديمية مستقبلية على الرواقية، ولتلخيص الهجوم كان كالتالي: بالنسبة لأي انطباع حس (S) يتلقاه بعض المراقب (A) عن كائن موجود (O) والذي يمثل تمثيلًا دقيقًا لـ(O) يمكننا تخيل الظروف التي يوجد فيها انطباع آخر (S) والذي يأتي إما:

1- من شيء آخر غير (O).

2- أو من شيء غير موجود، وهذا يعني أنّ (S) لا يمكن تمييزها من (S) إلى (A).

الاحتمال الأول: يتضح من حالات التوائم أو البيض أو التماثيل أو البصمات التي لا يمكن تمييزها في الشمع المصنوعة من نفس الحلقة.

الاحتمال الثاني: يتضح من أوهام الأحلام والجنون.

بناءً على قوة هذه الأمثلة استنتج أركسيلوس على ما يبدو أننا قد ننخدع من حيث المبدأ بشأن أي انطباع عن الحس، وبالتالي فشل الحساب الرواقي للمعرفة التجريبية، وبالنسبة للرواقيين كانوا تجريبيين شاملين ويعتقدون أنّ الانطباعات الحسية تكمن في أساس كل معرفتنا، ولذلك إذا لم نكن متأكدين من أننا قد أدركنا أي انطباع عن الحس، فلا يمكننا أن نكون متأكدين من أي من الانطباعات الأكثر تعقيدًا عن العالم بما في ذلك ما يصدمنا على أنّه ذو قيمة، وهكذا جنبًا إلى جنب مع الفشل في إثبات إمكانية (katalepsis) يذهب الفشل في إثبات إمكانية الحكمة الرواقية.

تعليق الحكم:

رداً على هذا النقص في المعرفة (سواء كان ذلك يقتصر على التنوع الرواقي أو المعرفة بشكل عام)، فقد ادعى أركسيلاوس أنّه يجب علينا تعليق الحكم، ومن خلال المجادلة المؤيدة والمعارضة لكل موقف تم طرحه في المناقشة وقدّم أسبابًا متساوية الأهمية على جانبي القضية وجعل من السهل قبول أي من الجانبين، ويحسب ديوجين تعليق الحكم باعتباره ابتكارات أخرى من أركسيلاوس ويشير إلى هذا على أنّه السبب في أنّه لم يكتب أي كتب أبدًا، وينسب سكستوس إمبيريكوس (الخطوط العريضة للبيرونية) و Plutarch (ضد كولوتيس) أيضًا تعليق الحكم على كل شيء إليه.

إنّ التحديد الدقيق للموقف المعرفي الذي يقصده أركسيلاوس من خلال (تعليق الحكم) أمر صعب، وذلك في المقام الأول لأنّ لدينا فقط تقارير من جهة ثانية وثالثة عن آرائه، ويبدو أنّ تعليق الحكم يعني عدم قبول الاقتراح على أنّه صحيح أي عدم تصديقه، ويترتب على ذلك أنّه إذا علق المرء الحكم على (p) فلا ينبغي عليه تصديق ذلك (p) ولا ينبغي عليه تصديق ذلك (not-p) لأنّ هذا سيلزمه بحقيقة (not-p).

ولكن إذا كان الاعتقاد بـ(p) يعني فقط الاعتقاد بأنّ (p) صحيح فإنّ تعليق الحكم على كل شيء هو نفس عدم تصديق أي شيء، وإذا أيّد أركسيلاوس هذا فإنّه لا يمكن أن يعتقد باستمرار إما أنّه لا يمكن معرفة أي شيء أو أنّه ينبغي بالتالي تعليق الحكم.

التفسير الديالكتيكي:

إحدى الطرق للتغلب على هذه المشكلة هي تبني التفسير الديالكتيكي، ووفقًا لهذا التفسير أظهر أركسيلاوس فقط للرواقيين أنّه ليس لديهم حساب كافٍ للمعرفة وليست المعرفة بشكل عام مستحيلة، وبعبارة أخرى لن تصبح المعرفة مستحيلة إلّا إذا عرفناها كما يفعل الرواقيون.

علاوة على ذلك لم يُظهر أنّه يجب على الجميع تعليق الحكم بل أظهر فقط أولئك الذين يقبلون بعض المقدمات الرواقية، على وجه الخصوص جادل بأنّه إذا قبلنا وجهة النظر الرواقية القائلة بأنّ الحكيم لا يخطئ أبدًا، وبما أنّ (katalepsis) غير ممكن فلا ينبغي للحكيم (وبقيتنا بقدر ما نحاكي الحكيم) أبدًا إعطاء موافقتنا على أي شيء، وبالتالي فإنّ الطريقة الوحيدة لتحقيق الحكمة أي تجنب الخطأ باستمرار هي تعليق الحكم على كل شيء وعدم المخاطرة أبدًا بأن تكون مخطئًا، ولكن الديالكتيك أركسيلاوس نفسه لا يوافق ولا يختلف مع هذا.

المعيار العملي:

أكبر عائق أمام التفسير الديالكتيكي هو معيار أركسيلاوس العملي ، لـ(eulogon) أي المعقول، حيث قدّم أركسيلاوس هذا المعيار ردًا على الاعتراض الرواقي بأنّه إذا قمنا بتعليق الحكم فيما يتعلق بكل شيء، فلن نكون قادرين على الاستمرار في الانخراط في الأنشطة اليومية، وإذ اعتقد السويكس أنّ أي عمل متعمد يفترض مسبقًا بعض الموافقة وهذا يعني أنّ الاعتقاد ضروري للعمل، وهكذا إذا قضينا على الإيمان فإننا سنقضي على الفعل.

يلاحظ سكستوس ذلك في أحدى مقاطعه حيث هناك قدر كبير من المصطلحات الفنية الرواقية في مثل هذه المقطع بما في ذلك مصطلح (eulogon) نفسه، وقد يبدو أنّ هذا يدعم التفسير الديالكتيكي، فمن وجهة النظر هذه يُظهر أركسيلاوس ببساطة للرواقيين أنّ تفسيرهم للمعرفة ليس ضروريًا للفضيلة، وأنّ لديهم بالفعل بديل معرفي مقبول تمامًا لـ(eulogon).

لكن هذا يثير السؤال لماذا يقدم أركسيلاوس مثل هذه الهدية لخصومه الرواقيين؟ وسيكون الأمر كما لو على حد تعبير ماكوني: “أركسيلاوس ضرب خصمه على الأرض أولاً ثم قدم له يده مرة أخرى”، وقد يبدو هذا الكرم غير متوافق مع الغرض الديالكتيكي البحت للدحض، وبالمثل إذا كان يجادل بشكل ديالكتيكي طوال الوقت فلا يبدو أنّ هناك سببًا وجيهًا لرده على الاعتراضات الرواقية لأنّه لم يكن يقدم وجهات نظره في المقام الأول.

من ناحية أخرى يمكن لمؤيدي وجهة النظر الديالكتيكية أن يؤكدوا أنّ أركسيلاوس لم يقدم أي فضل للرواقيين من خلال منحهم هدية التأبين، وبدلاً من ذلك قد لا يزال يُنظر إلى هذه الموهبة على أنّها تفنيد للرأي الرواقي القائل بأنّ المعرفة القوية ضرورية للفضيلة.

البديل لوجهة النظر الديالكتيكية هو تفسير التأويل على أنّه رأي أركسيلاوس المدروس فيما يتعلق بكيفية عيش المرء بشكل جيد في غياب اليقين، وثم يواجه هذا الرأي الصعوبة السابقة في شرح كيف أنّه من المتسق أن يؤيد أركسيلاوس تعليق الحكم على جميع الأمور بينما يؤمن في نفس الوقت أنّه يمكن للمرء أن يصل إلى الحكمة والسعادة من خلال الالتزام بمعاييره العملية.

المصدر: Ancient Greek SkepticismAncient SkepticismSkepticismAnnas, J., (1996), “Scepticism, Old and New,” in M. Frede and G. Striker, eds., Rationality in Greek Thought, (Oxford: Clarendon).Barnes, J. (1990), The Toils of Scepticism, (Cambridge: Cambridge University Press).


شارك المقالة: