أثر الإقطاع الأتابيكي على تنظيم ملكية الأراضي في الدولة الأيوبية

اقرأ في هذا المقال


أثر الإقطاع الأتابيكي على تنظيم ملكية الأراضي في الدولة الأيوبية:

لقد كانت الدولة الأتابكية النورية دولة عسكرية جهادية قامت على نظام إقطاعي عسكري وراثي، وقد شهد أبناء البيت الأيوبي هذا النظام وتملكوا الإقطاعات الواسعة من لدن الأتابك نور الدين محمود.

وكان صلاح الدين الأيوبي قد حصل على إقطاعات واسعة من لدن الأتابك وتولى شحنة دمشق. كان الجيش الأيوبي في مصر قد تكون من القوات التي اصطحبها معه الأمير أسد الدين شيركوة في حملة ثالثة على مصر سنة (564 هجري)،‏ والتي تكونت من ألفي فارس من العسكر النوري وستة آلاف فارس من التركمان بقيادة عين الدولة الياروقي بالإضافة إلى خمسمائة فارس من الأكراد والمماليك وهم فرسان الأمير أسد الدين صاحب إقطاع حمص. ولمّا استقر الأمر له في مصر (أقطع البلاد العساكر التي قدمت معه إليها).

بعد تولي صلاح الدين الوزارة بمصر أصبح الجيش الأيوبي يتكون من القوات الأسدية بعد انسحاب التركمان ورجوعهم إلى الشام. وكون صلاح الدين فرقة من المماليك بقيادة الأمير أبو الهجاء أطلق عليها اسم (الصلاحية). وبذلك أصبح الجيش الأيوبي في مصر يتكون من هاتين الفرقتين من العسكر.

كان الإقطاع هو الأسلوب الأمثل لسد نفقات مثل هذا الجيش الكبير في بلاد واسعة الأرجاء فقد كان الإقطاع الأيوبي هو نتاج البذرة الإقطاعية السلجوقية التي غرست في الأرض العربية والتي أثمرت الإقطاع الأتابكي ثم الأيوبي (أنشأ بنو سلجوق بني أرتق سنقر جد نبي زنكي ثم أنشأ بنو زنكي بن أيوب سلاطين مصر وغيرها).

إنَّ الجنود الذين قدموا مع الحملة الأسدية كانوا جنداً إقطاعياً لهم الإقطاعات الواسعة في بلاد الشام، وقد أدرك صلاح الدين هذا الأمر فوزعت أراضي مصر كلها إقطاعات على الأمراء ومماليكهم. يقول المقريزي: (وأما منذ كانت أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى يومنا هذا فإن أراضي مصر صارت تقطع للسلطان وأمراءه وأخباره).

لقد اتبع صلاح الدين النهج الأتابكي الزنكي في أسس منح الإقطاع الذي كانت سياسة الإقطاعية ترتكز على (إذا كانت البلاد لنا فأي حاجة بكم إلى الأملاك فأن الإقطاعات تغني عنها)، فقد أشار أبو شامة إلى أنَّ الملك العادل أراد كتاب بيع وشراء في حلب فرفض السلطان وقال له: (أظننت أنَّ البلاد تباع أو ما علمت أنَّ البلاد لإهلها المُرابطين بها ونحن خزنة المسلمين).‏

أهداف الإقطاع الأيوبي:

‏لقد قسم صلاح الدين الدولة الأيوبية بين أبنائه وأمرائه، وكان هذا التقسيم قائم على أسس إقطاعية. كذلك الملك العادل أخو صلاح الدين جعل الشام إقطاعات لأولاده فأصبحت مصر كلها إقطاعات أضافة إلى الشام. وقد توزعت هذه الإقطاعات منها خاص بالبيت الأيوبي والذي يشمل مدينة أو منطقة معينة، كدمشق وحمص وحماة وحلب، وهناك الإقطاع العسكري الخاص بالأمراء وكان يمنح لهم لقاء خدمات حربية يقدمها الأمير إلى السلطان الأيوبي.

لقد استهدف الأيوبيون من الإقطاع أمور عديدة ومهمة في نفس الوقت، لقد أدراك السلطان صلاح الدين ضرورة استمالة أمراء الدولة النورية السابقة فعمل على إقطاعهم الإقطاعات الوفيرة وأقر من بيده إقطاع على إقطاعه فكان إقطاع تآلف لسد ثغرة يمكن أنّ تُشكل خطراً عليه ومن أبرزهم الأمير علم الدين سلمان بن جندر، فهو من مشايخ الدولتين النورية والصلاحية بحلب أقطعه الإقطاعات الواسعة، وأقر الأتابك عماد الدين صاحب سنجار وأخوة عز الدين مسعود على الموصل وكذلك معز الدين سنجر شاة على الجزيرة.

استخدم الإقطاع الأيوبي لحماية المسلمين من خطر الصليبيين عن طريق منحهم الإقطاعات ليأمن شرهم، ففي سنة (585 هجري)،‏ قدّم صاحب حصن شقيق آرئون. مُستسلماً إلى صلاح الدين بعد معركة حطين فأقطع بعض الإقطاعات في دمشق من أجل السكن فيها والابتعاد عن الأفرنج، كذلك أقطع الامير أنطاكية بوهيموند فأكرمه السلطان وأجرى له ولأصحابه الإقطاعات وكان مبلغها عشرون ألف دينار وكان ذلك سنة (588 هجري).

وكذلك فأنه أقطع فرسان الداوية والإسبتارية بعض البلاد والقرى، حسماً للنزاع وحقناً لدماء المسلمين، ومن أجل تأمين طرق الحج وسلامة الحجاج المسلمين أقطع سلطان صلاح الدين أمير مكة الذي كان يأخذ الضرائب من الحجاج أقطع في صعيد مصر وبعض جهات اليمن وأجرى له راتب مقداره ألف دينار سوى المواد العينة من القمح وكان مقداره ألف إردب.

وكان للأمراء العسكريين الذين اسهموا بشكل فاعل في تثبيت الحكم الأيوبي النصيب الأوفر في منج الإقطاعات العسكرية، فقد اعتمد السلطان صلاح الدين في قتال الصليبيين في مصر والشام فأقطعهم الأراضي والضياع. يقول القلقشندي: (والإقطاعات في هذه المملكة تجري على الأمراء والجند وعامة إقطاعاتهم بلاد وأرض يستغلها مقطعها).

وهذا الإقطاع مكافأة لخدمات مقدمة للسلطان الأيوبي. لقد اتبع صلاح الدين توريث الإقطاعات وهو النظام الذي طبقه الأتابك نور الدين محمود فقد جعل الإقطاعات وراثية، فكانت حمص وحماة إقطاعاً لشيركوة بن ناصر الدين محمد بن شيركوة، وهو طفل في الثانية عشر من عمره وذلك بعد وفاة أبيه وبقيت في يدهم مائة عام. وفي سنة (587 هجري)،‏ توفي مقطع بعلبك شمس الدين بن المقدم وجعلها لابنه عز الدين، وكذلك أعطى ثلثي إقطاع الأمير سيف الدين علي بن أحمد المشطوب لابنه عماد الدين.

وكانت أسباب توريث الإقطاع هي نفسها التي دفعت الأتابك نور الدين إلى ذلك. ويجيز الإقطاع الأيوبي انتقال الإقطاع من مقطع إلى آخر وذلك يرجع إلى أسباب عديدة أهمها وفاة المقطع، ففي هذه الحالة ينظر السلطان في أمر الإقطاعية فيعين عليها مقطع جديد أو ينقل إليها أحد خواصه وهذا الأمر خاص به السلطان وحده.

أو مجيء سلطان جديد يعمل على إقطاع حاشية وأمراءه الموالين له وإبعاد العناصر الغير مرغوب بها، كذلك عدم رضى السلطان على المقطع يؤدي إلى سوء العلاقة بينهما بسبب إهمال الأخير، وتقصيره في دفع مال المقاطعة المقرر عليه أو عدم إرسال ما مقرر عليه من قوات عسكرية أو إهمال الإقطاعية وعدم الإعتناء بمشاريع الري والخدمات الأخرى والاساءة إلى الفلاحين، فقد عزل السلطان الأمير حسام الدين أبو الهجاء عن إقطاعه نصيبيين نتيجة شكوى أهلها منه.

وقد أوضح ابن مماتي، العُرف السائد في أصول التسليم والإستلام بقوله: (والعادة الجارية بأن المقطع إذا حل عنه الإقطاع وله فيه تبن إبقاه لمن يقطع بعده ليجد به السبيل إلى عمارة ما يخصه).

لقد أحاط الأمراء الأيوبيين أنفسهم بأعداد كبيرة من الأمراء والمماليك وأجروا لهم الإقطاعات الكثيرة؛ من أجل الحفاظ على الطاعة والولاء للأمير المقطع والحفاظ على الأمن الداخلي والخارجي للإقطاعات، وهذا ما حدث بعد عصر صلاح الدين، فقد وزع الملك المعظم بن الملك العادل بلاد الشام على مماليكه، فلمّا توجه العادل لقتال الصليبيين غضب على ابنه ولامه على إقطاع الشام لمماليكه.

بعد وفاة السلطان صلاح الدين سنة (589 هجري)،‏ وزعت الدولة توزيعاً إقطاعياً على أفراد بيته، فصارت مصر وأعمالها للملك العزيز عثمان وولده الأفضل نور الدين دمشق، وأعمالها وحلب لولده الظاهر، أما الأجزاء الشرقية من أراضي الدولة فقد وزعت على الأمراء من البيت الأيوبي، فقد أقطع الملك العادل سيف الدين أبو بكر أيوب الكرك، الشوبك، البلاد الشرقية، أقطع الملك المنصور ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر حماة وسليمة، المعرة، منبج، قلعة نجم، وأقطعت حمص والرحبة وتدمرا لشيركوة بن محمد بن شيركوة.

ولمّا كانت القاعدة الإقطاعية تقضي بتوزيع الإقطاعات على أفراد البيت الحاكم فإن الملك العادل سار على نفس نهج السلطان صلاح الدين، إنَّ الملك العادل قسم البلاد بين أولاده إقطاعاً، ففي سنة (604 هجري)،‏ أقطع الملك الكامل ناصر الدين محمد مصر، وأقطع ابن المعظم شرف الدين عيسى من العريش إلى حمص التي شملت بلاد الساحل والقدس والكرك والشوبك وصرخة، وأقطع ابنه الملك الأشرف مظفر الدين موسى البلاد الشرقية وهي الرها وما معها من حران وغيرها، وأقطع الملك الأوحد نجم الدين أيوب خلاط وميافارقين.


شارك المقالة: