الجاحظ وعلاقته بعلم العلامات والدلالة والرموز

اقرأ في هذا المقال


من وجهة نظر الجاحظ في علم العلامات والدلالة والرموز لم يتم اختزال اللغة إلى الدور السيميائي لمنتج الدوال الذي يصبح الفرد من خلاله قادرًا على الانتقال من عالم الحواس إلى طبقة مفاهيمية أكثر تجريدًا.

الجاحظ وعلم العلامات والدلالة والرموز

في بعض الاتجاهات الاجتماعية والثقافية المعاصرة لا سيما تلك التي تُعرِّف نفسها على أنها استطرادية تبني اللغة والخطاب الواقع بأخلاق عرضية وذات موقع تاريخي وثقافي.

وعلى المستوى المعرفي أحد الاختلافات بين هذه المواقف النظرية هو ما في حالة الجاحظ، ويعتقد من ناحية علم العلامات أن الإشارات تنبع من عقل يحاول في مساعيه المعرفية العثور على العلامات الصحيحة للتعبير عن نفسه، وفي حالة الجاحظ تُستمد العلامات من الأفعال البناءة للموضوع وتخدم الغرض من رفع أفعال الفرد إلى مستوى معرفي أعلى من الفرضيات والعمليات والتراكيب المقترحة، واللغة كما تصورها الجاحظ هي إحدى الآليات السيميائية التي يلجأ إليها الأفراد للتغلب على الآنية الإدراكية للأشياء.

ومن خلال اللغة والوظيفة السيميائية تصبح الأشياء الملموسة كائنات مستثارة يمكن التعامل معها الآن في مواقف افتراضية، حتى لو كانت اللغة أيضًا شيئًا ما بين الأفراد يتم استخدامه بالتعاون مع الآخرين، حيث إنها تظل بالنسبة للجاحظ أداة تجريد بشكل عام، وبالنسبة للاتجاهات الاجتماعية والثقافية على النقيض من ذلك فإن الإدراك مستمد من الثقافة، وعلى الرغم من أن الصيغ النظرية لكيفية اشتقاق الإدراك فعليًا من الثقافة يتم تصنيفها بشكل مختلف، على سبيل المثال كمشاركة أو كإدخال داخلي، حيث تتفق الاتجاهات الاجتماعية والثقافية على حقيقة إنه من المضلل فهم العلاقة بين الإدراك والثقافة من الناحية السببية.

وضمن طيف واسع من الاتجاهات الاجتماعية والثقافية يأتي التواصل في المقدمة، وهذه الاتجاهات تفهم اللغة بطريقة اجتماعية وثقافية، إذ يجادل علماء الاجتماع بأن الإدراك ينشأ من أعمال الاتصال وبالتالي فهو تكوين اجتماعي، على سبيل المثال يقول الجاحظ أن فكرة أن العقل بمعنى ما هو بناء اجتماعي صحيح من حيث أن مفاهيم البشر تنشأ من خطابهم وتشكل طريقة تفكيرهم.

حيث يقترح أن التفكير يمكن تعريفه على إنه الشكل الفردي لنشاط الاتصال، وبطريقة صريحة يؤكد هذا التعريف أن العمليات المعرفية من الناحية الجينية تُبنى على أساس العلاقات الاجتماعية التي تتم من خلالها مساعي البشر المعرفية.

ويرى الاختلاف الهائل بين الاتجاهات الخطابية المعاصرة للعلامات والمعرفة للعالم دو سوسور وتشارلز بيرس، ويعمل هذا الاتجاه في ظل افتراض الديكارتي، وهذا الافتراض لا يرقى إلى اعتبار العقل البشري نوعًا من الحاوية، ويقول الجاحظ ما أعنيه بفكرة، ليس فعلًا معينًا من التفكير، ولكنه قوة أو هيئة تدريس بحيث يكون لديه فكرة عن شيء ما حتى لو لم يتم التفكير فيه، ولكن يعلم إنه يمكن التفكير فيه عندما تسنح المناسبة، إذ أن الأفكار كامنة في البشر لأن تمثال هرقل نائم في الرخام الخام الذي سيخرج منه يومًا ما.

نظريات المعرفة الحديثة للجاحظ

وفي نظرية المعرفة للجاحظ الأفكار ليست موجودة للناس بالمعنى بل يتم إنشاؤها من قبل الفرد في سياق تطورها الوراثي، وفي البحث الاجتماعي والثقافي الأفكار ليست في البشر ولا مبنية على المعنى، ومن الناحية الجينية فهي موجودة في الثقافة، ومتضمنة في ممارساتها المختلفة.

مثل الممارسات التي يتم تضمينها فيها فهي تتطور دائمًا، ولا تزال هناك طريقة أخرى للتعبير عن الاختلافات السابقة، وتستند نظرية المعرفة عند الجاحظ إلى توافق محتمل بين الفكر والواقع واللغة، حيث أن معرفة شيء ما هو في نفس الوقت لإنتاج أو تفسير الأفكار ولنراهم في الوجود.

وعلى النقيض من ذلك، فإن عمل الجاحظ جزء لا يتجزأ من المشروع التأسيسي لنظرية المعرفة الحديثة، وهو مشروع تتمثل خصائصه الرئيسية في رفض البعد التجاوزي أي البعد الذي لا يزال موجودًا في عمل دو سوسور في شكل معرفة الدلالات، وما يصاحب ذلك من تركيز على الفرد، كمنتجي المعرفة على الرغم من اختلافها، وتتقارب نظريات المعرفة هذه على الرغم من أسباب غير مترابطة في تحديد الذات والموضوع، ولا توجد فجوة أساسية في ما هو الأنطولوجي والمعرفي وكيف يتم معرفته فالعقل والأشياء متشابهان.

ويعيد البحث الاجتماعي والثقافي تقديم بُعد متسامي أي أن البحث الاجتماعي والثقافي يبدأ من فرضية الواقع الثقافي المادي والمثالي الذي يسبق النشاط المعرفي للفرد، وبالتالي يتجاوز الفرد منذ البداية هذا الواقع ليس واقعًا أفلاطونيًا بل إنه واقع متضارب دائم التطور.

وتتشكل من الأبعاد السياسية والاقتصادية والقانونية والأخلاقية وغيرها من أبعاد الحياة اليومية، وبعبارة أخرى على النقيض من نظريات المعرفة الحديثة التي يمكن القول أن الجاحظ أحد أفضل الأمثلة عليها يبدأ البحث الاجتماعي والثقافي من عدم هوية العقل والأشياء.

وعلى الرغم من أن العالم الذي يأتي الإنسان ليسكنه عند الولادة هو عالم تاريخي صنعه البشر، في العالم بالمعنى الثقافي هناك فجوة وجودية يعبرها تدريجياً في مسيرة طويلة عندما يأتي إلى العيش في ثقافة مسيرة يبقى خلالها في حالة غير مكتملة ومتغيرة دائمًا، أي في حالة الصيرورة إذا لم يتطابق الموضوع والموضوع فإنهما وكما يجادل الجاحظ يتم توسطهما منذ البداية من خلال القطع الأثرية الثقافية، فضلاً عن الممارسات الخطابية وغيرها.

وقد يتم التقدير بشكل أفضل مع الفرق بين النظم المعرفية الموضحة إذا تم العودة إلى المكان الذي تشغله تلك اللغة والسيميائية من منظور اجتماعي ثقافي، فإن الثقافة ومصنوعاتها المختلفة تتوسط باستمرار في الموضوعات والأشياء، واللغة هي الوسيط الثقافي بامتياز، وإنه يؤثر في كل مكان على الموضوع منذ ولادته بالنسبة للجاحظ.

ومن وجهة نظره تتدخل اللغة عندما يبدأ الطفل في استخدامها قبل تلك اللحظة الحاسمة، ويجب تخيل الطفل إن لم يكن أصمًا من الناحية المعرفية، فعلى الأقل لا يبالي باللغة كما لو أن اللغة ستكون شيئًا مثل الضجيج المستمر اللامبالي والخمول للمياه الجارية في النهر.

وإنه يسبق كل واحد منهم، وإنه جديد لأنه يظهر دائمًا في كل نشاط تعليمي بشكل مختلف، بعبارة أخرى المعرفة كأسلوب لوجود المعرفة هي دائمًا أمر خاص، وإنه حدث وبالتالي فهو يقع في الزمان والمكان وإنها فريدة من نوعها، وهذا هو السبب في أن نفس المعلم لا يمكنه إنتاج نفس الدرس مرتين، تمامًا كما لا يستطيع مدير الموسيقى نفسه إنتاج نفس الأداء السمفوني مرتين، فالمعلم مثل مدير الموسيقى، في الواقع لا ينتج أداء بل أنهم يتشاركون في ذلك، فالمعرفة كحدث يستلزم المشاركة مع الآخرين.


شارك المقالة: