الحتمية البيولوجية مقابل البناء الثقافي في الأنثروبولوجيا

اقرأ في هذا المقال


مساهمات علماء الأنثروبولوجيا الثقافية:

تعود بداية الأنثروبولوجيا الثقافية إلى كتابات مثل هيرو دوت وماركو بولو وابن خلدون الذين سافروا على نطاق واسع وكتبوا تقارير عن الثقافات التي واجهوها، كما تم العثور على جذور مفاهيمية أكثر حداثة في كتّاب التنوير الفرنسي، مثل الفيلسوف شارل لوي مونتسكيو، الذي كتب في النصف الأول من القرن الثامن عشر، كتابه “روح القوانين”، الذي نُشر عام 1748، حيث ناقش المزاج والمظهر والحكم من مختلف الشعوب حول العالم، وكان يعتقد أن المناخات المختلفة تسبب الاختلافات الثقافية.

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اكتشف سير تشارلز مبادئ التطور البيولوجي وقدم داروين وآخرون لأول مرة تفسيرًا علميًا لأصول الإنسان، والتطور البيولوجي يقول أن الأشكال المبكرة تتطور إلى أشكال لاحقة من خلال عملية الانتقاء الطبيعي، حيث تعيش الكائنات الحية الأكثر ملاءمة بيولوجيًا لتتكاثر بينما تموت الكائنات الأقل لياقة، وفقًا لنموذج داروين، فإن التقدم المستمر نحو زيادة اللياقة تحدث من خلال الصراع بين المتنافسين من الكائنات الحية، وكان مفهوم التطور مهمًا في تفكير علماء الأنثروبولوجيا الثقافية الأوائل.

والأكثر أهمية كان السير إدوارد من الشخصيات التأسيسية للأنثروبولوجيا الثقافية في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر والسير تايلور وجيمس فريزر في إنجلترا ولويس هنري (Morgan) في الولايات المتحدة، ولقد طوروا نموذجًا يسمى التطور الثقافي حيث كل ذلك تتطور الثقافات من أشكال أدنى إلى أعلى بمرور الوقت، وهذا رأي وضع الشعوب غير الغربية في مرحلة بدائية والثقافة الأوروبية الأمريكية باعتبارها حضارة، وافترضت الثقافات غير الغربية إما أن تلحق بمستوى الحضارة الغربية أو تموت.

وبرونيسلاف مالينوفسكي، شخصية بارزة في أنثروبولوجيا الثقافة الحديثة في النصف الأول من القرن العشرين، حيث أنشأ نهجًا نظريًا يسمى الوظيفية، حيث أنها تقول أن الثقافة تشبه كائن حي، فالأجزاء تعمل معًا لدعم تشغيل الكل، كالدين وتنظيم الأسرة، على سبيل المثال، يسهمان في عمل الثقافة بأكملها، ويعتبر فرانز بواس مؤسس أنثروبولوجيا الثقافة الحديثة في أمريكا الشمالية، حيث ولد في ألمانيا وتلقى تعليمه في الفيزياء وجغرافيا، وجاء إلى الولايات المتحدة في عام 1887، وجلب معه شكوكًا تجاه العلوم الغربية التي اكتسبها من دراسة لمدة عام مع الإنويت والسكان الأصليين لجزيرة بافين، كندا.

فهو تعلم من الإنويت أن الناس في ثقافات مختلفة قد يفعلون أنماط معرفية مختلفة، ولديهم تصورات مختلفة حتى عن المواد الفيزيائية الأساسية، مثل الماء، وجاء فرانز بواس للتعرف على الفردية وصلاحية الثقافات المختلفة، وقدم مفهوم النسبية الثقافية، أو وجهة النظر التي يجب أن تكون عليها كل ثقافة من حيث قيم وأفكار تلك الثقافة ولا يحكم عليها بمعايير الغير، وبالنسبة الى فرانز بواس، لا توجد ثقافة أفضل من أي ثقافة أخرى، وهي وجهة نظر تتناقض بشكل ملحوظ مع تلك الخاصة بالقرن التاسع عشر أي أنصار التطور الثقافي.

ومارجريت ميد، أشهر تلميذ فرانز بواس، ساهم في فهم كيف يمكن على وجه التحديد تربية الأطفال، وتشكيل الشخصية وأدوار الجنسين، وكان لكتاباتها تأثير كبير على أنماط رعاية الأطفال في الولايات المتحدة في عام 1950، وهكذا كان مارجريت ميد من أوائل علماء أنثروبولوجيا الثقافة الحديثة حيث أخذ على محمل الجد أهمية جلب المعرفة الأنثروبولوجية الثقافية لعامة الناس من أجل خلق التغيير الاجتماعي الإيجابي.

توسع الأنثروبولوجيا الثقافية الحديثة:

وبعد الحرب العالمية الثانية، توسعت الأنثروبولوجيا الثقافية الحديثة إلى حد كبير من حيث عدد الأنثروبولوجيين المدربين وأقسام الأنثروبولوجيا في الكليات والجامعات، جنباً إلى جنب مع هذا النمو جاء زيادة تنوع النظرية، وطور العديد من علماء الأنثروبولوجيا نظريات الثقافة على أساس العوامل البيئية، واقترحوا أن مماثلة البيئات على سبيل المثال، الصحاري أو الغابات الاستوائية المطيرة من المتوقع أن تؤدي إلى ظهور ثقافات مماثلة.

وفي هذا الوقت، عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي كلود ليفي شتراوس كان يطور منظورًا نظريًا مختلفًا معروفًا كبنيوية فرنسية، وأكد أن أفضل طريقة لفهم الثقافة هو جمع أساطيرها وقصصها و تحليل الموضوعات الأساسية فيها، حيث ألهمت البنيوية الفرنسية تطوير الأنثروبولوجيا الرمزية، أو دراسة الثقافة كنظام معاني والتي كانت خاصية بارزة في الولايات المتحدة في الجزء الأخير من القرن العشرين.

وفي الستينيات ظهرت النظرية الماركسية في الأنثروبولوجيا، مشيرتاً إلى أهمية وصول الناس إلى وسائل رزق، وألهمت ظهور نظرية جديدة ومدرسة في الولايات المتحدة تسمى المادية الثقافية، حيث أن المادية الثقافية هو نهج لدراسة الثقافة من خلال التأكيد على الجوانب المادية للحياة، وخاصة البيئة الطبيعية وكيف يكسب الناس لقمة العيش، ونشأ أيضًا في الستينيات الموقف النظري المشار إليه باسم الأنثروبولوجيا التفسيرية، أو أنثروبولوجيا التفسير، وتطور هذا المنظور من كل من الأنثروبولوجيا الرمزية الأمريكية والأنثروبولوجيا الهيكلية الفرنسية.

تقول من خلال هذا الفهم إنه يجب أن تركز الثقافة على ما يفكر فيه الناس، وأفكارهم والرموز والمعاني التي تهمهم، وتم مناقشة هذين الموقفين بمزيد من التفصيل من قبل العديد من العلماء والباحثين، ومنذ التسعينيات ، كان هناك اتجاهان نظريان آخران اكتسبا شهرة، وكلاهما يتأثر بما بعد الحداثة، والسعي الفكري الذي يسأل عما إذا كانت الحداثة تقدمًا حقًا وتتساءل عن جوانب الحداثة مثل الجوانب العلمية لطريقة التحضر، والتغير التكنولوجي والاتصال الجماهيري.

والنظرية الأولى تسمى البنيوية والتي صاغها علماء أنثروبولوجيا ما بعد الحداثة، وهي الرأي القائل بأن مثل هذه الهياكل القوية حيث أن الاقتصاد والسياسة والإعلام يشكلان الثقافات والتأثير كيف يتصرف الناس ويفكرون، حتى عندما لا يدركون ذلك، وتؤكد النظرية الثانية على الفاعلية البشرية، أو الإرادة الحرة، وقوة الأفراد على خلق وتغيير الثقافة من خلال العمل ضد الهياكل.

تتناول الأنثروبولوجيا ثلاث مناظرات في قلب الأسئلة الأساسية حول سبب اختلاف الناس وتشابههم عبر الثقافات، ولماذا إنهم يتصرفون ويفكرون بالطريقة التي يتصرفون بها، وكيف ينبغي لعلماء الأنثروبولوجيا أن يشرعوا في فهم هذه الأسئلة، والمناظرة الأولى مناقشة تشرك الأنثروبولوجيا البيولوجية مع الأنثروبولوجيا الثقافية، والثانية والثالثة هي المناقشات على وجه التحديد داخل الأنثروبولوجيا الثقافية.

الحتمية البيولوجية مقابل البناء الثقافي في الأنثروبولوجيا:

تسعى الحتمية البيولوجية إلى التفسير سلوك الناس وتفكيرهم من خلال النظر في العوامل البيولوجية مثل جينات الناس وهرموناتهم، وهكذا في الحتمية البيولوجية يبحث الحتميون عن الجين أو الهرمون الذي يساهم في ذلك السلوك مثل القتل أو إدمان الكحول أو إجهاد المراهقين، كما أنهم يفحصون الممارسات الثقافية من حيث كيفية القيام بالمساهمة في النجاح التكاثري للأنواع، أي كيف أنها تساهم في تجمع الجينات للأجيال اللاحقة من قبل زيادة عدد النسل الباقي على قيد الحياة.

وفي هذا الرأي والسلوكيات والأفكار التي لها مزايا إنجابية من المرجح أن تنتقل إلى الأجيال القادمة أكثر من غيرها، والحتمية البيولوجية على سبيل المثال، تشرح لماذا يبدو أن لدى الذكور مهارات مكانية أفضل من الإناث، ويقولون أن هذه الاختلافات هي نتيجة تطورية الاختيار لأن الذكور ذوي المهارات المكانية الأفضل سيكون لديهم ميزة في تأمين كل من الطعام والأصحاب، والذكور مع المهارات المكانية الأفضل تنجب المزيد من الإناث ولديهن المزيد من نسل يتمتعون بمهارات مكانية أفضل.

والبناء الثقافي في المقابل يحافظ على ذلك فمن الأفضل شرح السلوك البشري والأفكار على أنها منتجات التعلم على شكل ثقافي، وفيما يتعلق بمثال المهارات المكانية الأفضل للذكور، قد يقدم القائمون على البناء الثقافي دليلاً على أن هذه المهارات ويتم نقلها ثقافيًا من خلال التعلم وليس الجينات، وسيقولون أن الآباء والمعلمين يفضلون الاختلاط الاجتماعي بين الأولاد والبنات بشكل مختلف في المهارات المكانية وهم على الأرجح لتعزيز تعلم أنواع معينة من المهارات المكانية بين الأولاد.

وعلى الرغم من الاعتراف بدور العوامل البيولوجية مثل الجينات والهرمونات، علماء الأنثروبولوجيا الذين يفضلون البناء الثقافي والتعلم كتفسير لسلوكيات مثل القتل وإدمان الكحول تشير إلى تجارب الطفولة حيث قد تكون الأدوار العائلية أكثر أهمية من الجينات أو الهرمونات، ومعظم علماء الأنثروبولوجيا الثقافية هم بنائيون ثقافيون، لكن البعض يربط بين علم الأحياء والثقافة في عملهم.


شارك المقالة: