الرحالة المصريون يرتادون الجنوب:
زاد اهتمام ملوك مصر بشؤون الجنوب منذ أيام الأسرة الخامسة عندما كانوا يرسلون الحملات لإحضار خيرات السودان. وزاد هذا الاهتمام في الأسرة السادسة فأوكلوا إلى أمراء جزيرة إلفنتين وتعرف الآن باسم جزيرة أسوان مهمة القيام بتلك الرحلات، إذ كان أولئك الأمراء أعرف الناس بما يلي بلادهم، وكانوا يُشرفون على الحدود المصرية في الجنوب.
وأثمرت سياسة (وني)، وبخاصة منذ توليه أمر وظيفة حاكم الوجه القبلي، فوطد صلته بزعماء النوبة وكان هؤلاء الزعماء واتباعهم يتطوعون في الجيش المصري عند قيامه بالحروب في فلسطين كما كانوا يختارون من بين أولئك النوبيين حُراساً يسهرون على الأمن منذ أيام الأسرة السادسة في العاصمة وربما في غيرها من المدن أيضاً.
وعندما كان (وني)، حاكماً على الوجه القبلي، وكان الرجل الذي يلي الوزير في الأهمية، نراه يهتم بإرسال الرحالة نحو الجنوب فقام (حر خوف)، بحملاته الثلاث الأولى، كما قص علينا في تاريخ حياته المُسّطر على واجهة قبره في أسوان، في عهد الملك (مري إن رع)، أما رحلته الرابعة فقد كانت في عهد الملك (ييي الثاني).
الحاكم حر خوف:
كان (حر خوف)، يحكم الإقليم إلفنتين ولكنه في الوقت ذاته كان كاهناً لبعض الآلهة أما لقبه الرئيسي الذي كان يعتز به أكثر من كل ما عداه فهو لقب (رئيسي الحملة). كان (حر خوف)، في حملته الأولى في صحبة أبيه وكان يمشي (إري)، إلى منطقة تُسمى بلاد إيام لفتح الطريق إلى تلك البلاد، وقد تمت الرحلة في سبعة شهور. ويستمر (حر خوف)، في سرد قصته فيذكر أنَّ ملكه أرسله وحده في المرة الثانية فخرج من إلفنتين ويذكر بعد ذلك البلاد التي مر بها واحداً بعد آخر ويفتخر بأنَّ أحداً من الرحالة الذين سافروا قبله لم يتسن له ارتياد المناطق التي ارتادها أو يعود من رحلته بمثل ما عاد به من هدايا.
وفي رحلته الثالثة اتخذ طريقاً آخر، إذ سافر على (درب الواحات)، ووجد حر خوف أنَّ حرباً قد استعرت بين زعيم قبيلة (إيام)، وبين قبائل (التمحو)، الذين كانوا يمكثون في غربي مصر، فأصلح بينهم وعاد من تلك الرحلة ومعه ثلاثمائة حمار مُحملة بالبخور والأبنوس والعطور وجلود الفهد وأنياب الفيلة وبذر السمسم وغير ذلك كما رافقه في عودته بعض زعماء القبائل ليدلّوه على الطريق.
ولسنا نعرف تفاصيل ما حدث له في رحلته الرابعة التي قام بها في العام الثاني من حكم الملك (ييي الثاني)، لأنّ حصوله على قزم من تلك الرحلة قد غطّى على كل شيء آخر. ولو حللنا تفاصيل تلك الحملات وتتبعنا البلاد التي ذكرها لخرجنا بالنتائج الآتية:
1- كانت أولى رحلاته مع أبيه، وقد وصل إلى بلاد (إيام)، أي المنطقة الواقعة جنوبي وادي حلفا.
2- كانت رحلته الثانية في مناطق لم يسبقه إلى اختراقها أحد من قبل. وقد كانت هاتان الرحلتان تبدآن بالنزول في النيل إلى مكان معين قريب من وادي حلفا ثم يبدأ بعد ذلك سيره بالبر.
3- أما الرحلة الثالثة فقد كانت في طريق البر، وسار فيها على درب الأربعين. واتصل فيها (التمحو). ومن المحتمل جداً أنَّ هدفه الذي حققه كان الوصول إلى دارفور.
4- وربما شجعه نجاحه في رحلته الثالثة على السفر مرة أخرى، ولكن نجاحه في الحصول على قزم جعله لا يذكر شيئاً آخر سواء عن الطريق الذي اتخذه أو الحاصلات والهدايا التي عاد بها، أكثر من أنه كان قد وصل إلى المنطقة الواقعة إلى جنوبي وادي حلفا (إيام). وأرسل حر خوف يُنبىء الملك بحصوله على ذلك القزم فتلقى رسالة من الملك كتبها بخط يده، وقد اعتز بها حر خوف ونقل نصها الحرفي على جانب مدخل قبره وتم تقديم هنا مترجماً ترجمة حرفية لإعطاء فكرة عن صيغة خطابات ذلك العهد، ولكن يجب ألا ننسى أنه خطاب من طفل صغير حديث السن: (الختم الملكي نفسه، في السنة الثانية الشهر الثالث من فصل الصيف اليوم الخامس عشر).
رسالة مم الملك إلى الصديق الأوحد، الكاهن المرتل، ورئيس الحملة (حر خوف): تفهمت نص الخطاب هذا الذي بعثت به إلى الملك في القصر لتحيطه علماً بأنك عدت سالماً من بلاد إيام مع حملتي التي كانت معك، وذكرت في رسالتك أنك أحضرت جميع الهدايا الكثيرة الجميلة التي قدمتها الإلهة حتحور سيدة بلاد (إماوو)، إلى ذات ملك الوجهين القبلي والبحري الملك نفر كارع (ييي الثاني)، عاش خالداً إلى الأبد.
وذكرت في رسالتك هذه أنك أحضرت قزماً لأجل رقصة الإله من أرض الأرواح، وهو شبيه بالقزم الذي أحضره قائد السفينة (باوردد)، من بلاد يونت، في عهد الملك (إسيسي). وقلت لجلالتي: لم يحدث أبداً أنّ جاء بمثله أي شخص آخر ذهب إلى بلاد إيام من قبل.
لقد تمكنت حقاً بعمل ما يحبه سيدك ويشكرك عليه، إنك تصبح وتمسي في تحقيق كل ما يحبه ويريده ويأمر به مولاك، وسيكافئك جلالته كثيراً وسيمنحك ما سيعتز به ابن ابنك إلى الأبد وسيقول كل من يسمع بما فعله جلالتي من أجلك: هل هناك مثيل لِمَا عمل لأجل الصديق الأوحد حر خوف عندما سافر إلى بلاد إيام فأظهر يقظة في تنفيذ ما يأمر به ويُحبه ويمدحه مولاه؟. تعال إلى الشمال. تعال سريعاً إلى القصر، وأحضر معك هذا القزم الذي جئت به من أرض الأرواح حياً سالماً وفي صحة جيدة ليرقص للإله، ويدخل السرور آلاف المرات على قلب ملك الوجهين القبلي والبحري الملك نفر كارع عاش إلى الأبد.
فإذا ما تم إنزاله معك إلى السفينة فعين أشخاصاً أذكياء على جانبها لملاحظته حتى لا يقع في الماء. وإذا نام في الليل فعين رجالاً أذكياء ليحرسوه في حجرته، وفتش عليهم عشر مرات كل ليلة، لأنَّ جلالتي يجب أنّ يرى هذا القزم أكثر من هدايا المناجم وهدايا بلاد يونت. فإذا وصلت إلى القصر ومعك هذا القزم حياً سالماً وفي صحة جيدة فإنَّ جلالتي سيعمل لأجلك أشياء كثيرة أكثر مما عمل لأجل قائد السفينة (باودد)، في أيام الملك (إسيسي)، لأنَّ رغبة جلالتي هي رؤية هذا القزم. وقد أعطيت الأوامر لحاكم المدينة الجديدة الرفيق المشرف على الكهنة ليأمر بإعداد ما يلزم من مأكل وشراب في كل استراحة ملحقة بالمخازن وفي جميع المعابد بلا استثناء.