بالنسبة للكثيرين تعتبر مصر القديمة مرادفة للفراعنة والأهرامات في فترة الأسرات التي بدأت حوالي 3100 قبل الميلاد، وقبل ذلك بوقت طويل ازدهرت شعوب العصر الحجري الحديث الغامضة حوالي 9300-4000 قبل الميلاد، وفي الواقع كانت أنماط الحياة والابتكارات الثقافية لهذه الشعوب هي التي قدمت الأساس ذاته للحضارات المتقدمة القادمة.
مصر والعصر الحجري
على الرغم من أنّه لم يكن خصبًا إلّا أنّ العصر الحجري الحديث كان أكثر رطوبة مما هو عليه اليوم، مما سمح لهؤلاء الرعاة القدامى بملء ما هو الآن وسط اللامكان، وعند التركيز على العصر الحجري الحديث النهائي 4600-4000 قبل الميلاد، والذي تم بناؤه على نجاح العصر الحجري الحديث المتأخر 5500-4.650 قبل الميلاد مع الأبقار والماعز المستأنسة ومعالجة النباتات البرية ودفن الماشية، حيث قام هؤلاء الأشخاص أيضًا بصنع مجاليث واضحة وأضرحة وحتى دوائر تقويمية، والتي تشبه إلى حد ما ستونهنج المصغرة.
خلال الجزء الأخير من العصر الحجري الحديث بدأ الناس في دفن الموتى في مقابر رسمية، وتوفر الهياكل العظمية معلومات مهمة؛ لأنّها أتت من أناس عاشوا في السابق وتفاعلوا مع البيئات الثقافية والمادية، ويمكن أن تترك الصحة والعلاقات والنظام الغذائي وحتى التجارب النفسية علامات منبهة على الأسنان والعظام.
في 2001-2003 تم التنقيب في ثلاث مقابر من هذا العصر -الأولى في الصحراء الغربية- حيث اكتشف ودرس 68 هيكلًا عظميًا، كما كانت القبور مليئة بالمصنوعات اليدوية وفخار الزينة وأصداف البحر والحجارة ومجوهرات من قشر بيض النعام.
واكتشف أيضًا ميكا منحوتة (معدن سيليكات) وبقايا حيوانات، بالإضافة إلى أدوات تجميل متقنة للنساء وأسلحة حجرية للرجال، حيث علم أنّ هؤلاء الأشخاص يتمتعون بمعدلات وفيات منخفضة في مرحلة الطفولة وقوام طويل وحياة طويلة، فقد بلغ متوسط الرجال 170 سم بينما كان طول النساء حوالي 160 سم، وعاش معظم الرجال والنساء أكثر من 40 عامًا وبعضهم في الخمسينيات من العمر وهي فترة طويلة في تلك الأيام.
الغريب أنّه في 2009-2016 تم حفر مقبرتين مختلفتين للغاية، وبعد تحليل 130 هيكلًا عظميًا آخر اكتشف أنّ عددًا قليلاً من المصنوعات اليدوية المصاحبة لهم، وأنّهم عانوا من معدل وفيات أعلى في مرحلة الطفولة بالإضافة إلى قصر العمر والقامة، وهنا تم التحدث عن أقصر بعدة سنتيمترات وربما أصغر بعشر سنوات للبالغين من كلا الجنسين.
من المثير للدهشة أنّ أكبر الجبانتين كانت بها منطقة دفن منفصلة للأطفال دون سن الثالثة من العمر، ولكن معظمهم من الرضع بما في ذلك الأجنة المتأخرة، كما تم العثور على ثلاث نساء دفنوا مع أطفال فربما ماتوا أثناء الولادة، وفي الواقع هذه هي أقدم مقبرة رضع معروفة في العالم.
ما تشير إليه الحفريات
إذن ماذا يمكن أن يخبرنا هذا عن هذه الشعوب وماذا عن أحفادهم؟ حيث من الممكن استخدام النتائج لعمل تفسيرات حول الجنس ومرحلة الحياة والرفاهية والحالة وأشياء أخرى، فعلى سبيل المثال لماذا كانت هناك مثل هذه الاختلافات بين موقعي القبر؟ فقد كان من الممكن أن يكونوا مجموعات منفصلة، ولكن من غير المحتمل أن يعتمد ذلك على أوجه التشابه الجسدي العام، ولذلك ربما يشيرون إلى الاختلاف حسب المكانة حيث تكون إحدى المقابر للنخبة والأخرى للعمال وهذا هو أقدم دليل من هذا القبيل في مصر.
كما سلطت المواقع الضوء على الهياكل العائلية في ذلك الوق، والنسبة الإجمالية بين الجنسين في جميع المقابر هي ثلاث نساء لكل رجل، مما قد يشير إلى تعدد الزوجات، ومع ذلك فإنّ العدد الإجمالي للدفن وعدم وجود إشارة إلى المنازل الفردية يشير إلى أنّ هذه كانت مقابر عائلية ممتدة، ويُعتقد أيضًا أنّ بلوغ الشخصية -أي عمر الأطفال الذين يتم تكوينهم اجتماعياً ليكونوا أشخاصًا- كان من ثلاث سنوات نظرًا لإدماجهم في مقابر البالغين.
هناك أيضًا دليل واضح على احترام الأشخاص المدفونين سابقًا من قبل المعزين اللاحقين الذين أعادوا استخدام القبور لدفن موتاهم، وعند مصادفتهم الهياكل العظمية القديمة غالبًا ما قاموا بإعادة ترتيب عظام هؤلاء الأسلاف بعناية، وفي بعض الحالات المثيرة للاهتمام قاموا حتى بمحاولات إعادة بناء الهياكل العظمية عن طريق استبدال الأسنان التي سقطت مرة أخرى في الهيكل العظمي وليس دائمًا بشكل صحيح.
تشير هذه المؤشرات السلوكية جنبًا إلى جنب مع الهندسة المعمارية الاحتفالية والتكنولوجية المبتكرة المذكورة سابقًا، مثل دوائر التقويم والأضرحة إلى مستوى من التطور يتجاوز بكثير مستوى الرعاة البسطاء، ومجتمعة تقدم النتائج لمحة عن الأشياء التي لم يأت بعد في مصر القديمة.