تصورات الجريمة كظاهرة من الطبقة الدنيا

اقرأ في هذا المقال


من الناحية الإدراكية يبدو أنّ هناك إجماعًا بين شريحة كبيرة من سكان العالم على أنّ الجريمة هي إلى حد كبير نتاج سلوك السكان من الطبقة الدنيا، وإذا كانت العلاقة بين الطبقة الاجتماعية والجريمة غير مدعومة بالبحث فلماذا يستمر هذا التصور؟ فالطبقة الاجتماعية والجريمة مرتبطان ببعضهما البعض على نطاق واسع، ولكن استكشفت العديد من النظريات الإجرامية العلاقة بين العوامل الاقتصادية والجريمة بما في ذلك النظر في آثار الفقر على الإجهاد وتأثير القادمين من منطقة محرومة وثقافة الفقر وبنية وإنفاذ القوانين والنظام القانوني.

مدى ارتباط الجريمة بالطبقة الدنيا

في عمله الأساسي المتعلق بالواقع الاجتماعي للجريمة أشار ريتشارد كويني إلى أنّ أشكالًا معينة من الجرائم متأصلة في نفسية الشعب الأمريكي، أي عندما نفكر في الجريمة فإننا نميل إلى التفكير فيها من منظور ضيق للغاية، وغالبًا ما نتجاهل أكثر الجرائم انتشارًا وغالبًا الأشخاص الذين يتسببون في أكبر قدر من الأذى، ونميل إلى تصور جرائم الشوارع مثل القتل والسرقة والسطو والاعتداء، بينما نادرًا ما نتصور جرائم ذوي الياقات البيضاء والشركات والجرائم التي ترعاها الدولة.

ذلك نظرًا لأنّ جرائم الشوارع غالبًا ما يرتكبها أشخاص من الطبقات الدنيا وجرائم النخبة، والتي لا تشغل عمومًا الوعي والرأي العام- تُرتكب بشكل شبه عالمي من قبل أشخاص يتمتعون بسلطة اقتصادية وسياسية واجتماعية، فإنّ النظرية للواقع الاجتماعي للجريمة يربط الجريمة بدقة مع أولئك الموجودين في الدرجات الدنيا من السلم الاقتصادي والاجتماعي.

من المرجح أن يتم القبض على أولئك الذين ينتمون إلى الطبقات الاقتصادية الدنيا وإدانتهم وسجنهم لارتكاب جرائم أكثر من الأفراد الأكثر ثراءً، ومن المرجح أن يكون السجناء عاطلين عن العمل ويكسبون أقل من عامة السكان، وعلى الرغم من أنّ النشاط الإجرامي للأثرياء قد يشكل تكلفة مالية أكبر على المجتمع، فإنّ الأفراد الأثرياء هم أقل عرضة للقبض على الجرائم وإدانتهم، بالإضافة إلى ذلك فإنّ جرائم ذوي الياقات البيضاء عولجت تقليديًا بشكل أقل قسوة من قبل نظام العدالة الجنائية من جرائم الشوارع.

يظل هذا صحيحًا حتى في مواجهة البيانات الموثقة جيدًا والتي توضح أنّ الجرائم التي يرتكبها الأقوياء تكلف سكان الولايات المتحدة على سبيل المثال أكثر من حيث التكاليف المالية والمادية، فاقترح كويني أنّ السبب في ذلك هو أنّ تعريف ما يشكل جريمة يتم تطويره من قبل أولئك الذين يتمتعون بسلطة اقتصادية وسياسية واجتماعية ووفقًا لمصالحهم الخاصة، في حين أنّ الأفراد الذين ليس لديهم مثل هذه القوة هم أكثر عرضة لتعريف أنشطتهم على أنّها إجرامية.

الطرق العامة لقياس الجريمة

تفسيرات كثيرة لماذا يميل الرأي العام إلى امتلاك مثل هذا المفهوم المحدود للجريمة، حيث إنّ الطريقة التي يتم بها قياس الجريمة تسلط الضوء على إحدى الطرق التي يحصل بها الناس على تعريف ضيق، وهناك ثلاث طرق عامة تُستخدم لقياس الجريمة:

1- الإحصاءات الرسمية.

2- استقصاءات الإيذاء.

3- دراسات التقرير الذاتي.

تقيس الطريقتان الأخيرتان جوانب مختلفة من الإيذاء والسلوك الإجرامي المبلغ عنه ذاتيًا، والأول عادة يتضمن تقارير الجريمة الموحدة التي تعتمد على الجرائم المعروفة للشرطة لتزويدنا بمعدلات الجريمة المقدرة، وتصبح الجريمة معروفة للشرطة إما لأنّ الضابط يكتشفها أو على الأرجح ولأنّ شخصًا ما يبلغ عنها للشرطة، وطالما أنّ الشرطة تقدم بلاغًا عن الجريمة فهي متاحة ليتم عدها واستخدامها في حساب معدلات الجريمة، والتحذير من ذلك هو أنّه عند إنشاء معدل الجريمة الإجمالي يقيس تقرير الجريمة الموحد ثماني جرائم فقط وهي:

1- القتل العمد والقتل غير العمد.

2- الاغتصاب القسري.

3- السرقة.

4- الاعتداء المشدد.

5- السطو والسرقة والسلب.

6- سرقة السيارات.

7- الاعتداء البسيط.

8- الحرق العمد.

الأربعة الأولى هي جرائم عنيفة والأربعة الثانية جرائم ملكية، ونظرًا لأنّ هذه الجرائم تتعامل في الغالب مع جرائم الشوارع التي من المرجح أن يرتكبها الفقراء وتتجاهل عددًا كبيرًا من الجرائم، والتي من المحتمل أن يرتكبها أولئك الذين ينتمون إلى الطبقات الاقتصادية العليا فإنّ معدلات الجريمة تقدم صورة منحرفة عن الجريمة.

المحتوى الإعلامي وتصورات الجريمة

بالطبع عملت وسائل الإعلام الإخبارية والترفيهية أيضًا على تقديم صورة للجريمة والإيذاء لا تتجذر بالضرورة في الواقع، حيث أصبحت الجريمة موضوعًا بارزًا في المحتوى الإعلامي، ومن أبرز جوانب التغطية الإعلامية للجريمة أنّها تميل إلى التركيز على أندر الجرائم، ويتم عرض صور لعمليات الاغتصاب والقتل والسرقة البارزة نسبيًا على شاشات التلفزيون طوال اليوم في جميع أنحاء البلاد.

عادةً ما تلتزم الصحف المحلية والبرامج الإخبارية بالمثل القائل: “إذا نزفت فإنّها تقود”، فلا تحظى القصص الإخبارية حول الممارسات المنحرفة وغير القانونية للنخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية باهتمام مماثل ما لم تحدث على نطاق واسع جدًا، كما كان الحال مع انهيار شركات مثل شركة إنرون (Enron) وأيضًا ووردكوم (WorldCom) بسبب الجرائم المالية، حيث أعلنتا الشركتان إفلاسهما بعد عملية نصب واحتيال تعد ضخمة جدًا وهي من أكبر الفضائح والأعمال المشينة المحاسبية في الولايات المتحدة كما أنّها من أكبر حالات الإفلاس التي عرفت في الأوساط العالمية.

ومع ذلك فإنّ الممارسات الإعلامية ليست تفسيرًا كاملاً، وبصفتهم فاعلين اجتماعيين يلعب الناس دورًا في إن لم يكن يخلقوا فإنّه يسمح بالتأكيد بظهور واستدامة صورة مشوهة للجريمة، وتميل القصص عن الجرائم العنيفة والبشعة إلى جذب الاهتمام العام، وهذا الاهتمام هو جزء من السبب في أنّ المقالات الصحفية التي نقرأها والأخبار والأفلام والبرامج التلفزيونية التي نشاهدها تهيمن عليها قصص الجريمة.

في الواقع يجادل بعض المحللين بأنّ وسائل الإعلام تستجيب ببساطة لرغبات الجمهور، كما إنّها شركة ومثل جميع الشركات فإنّ هدفها الأساسي هو زيادة حصتها في السوق ودخل الإعلانات والأرباح، ولذلك إذا لم يستهلك الجمهور ما تقدمه وسائل الإعلام فسيتعين على وسائل الإعلام تغيير ما تقدمه أو التوقف عن العمل.

أيدولوجية تصورات الجريمة

إنّ التصورات العامة للجريمة هي أيضًا نتاج أيديولوجي، فالعديد من أفكارنا حول الجريمة والإجرام متجذرة في التنشئة الاجتماعية والظروف الشخصية، حيث يتشكل من الخلفية الاجتماعية والمبادئ الدينية والتفضيلات السياسية، ويطور العديد من الناس أفكارًا قوية حول أسباب وعلاجات السلوك الإجرامي في وقت مبكر نسبيًا في الحياة، كما إنّ مدى قبول الناس للرؤية المشتركة للجريمة كظاهرة من الطبقة الدنيا يرجع جزئيًا إلى حقيقة أنّ هذه الآراء تتوافق بشكل جيد مع الخطاب السائد للقادة الدينيين والاقتصاديين والسياسيين حول العلاقات بين الخطيئة والفقر وجريمة.

أخيرًا يتواطأ علماء الجريمة في إنشاء تصوير غير دقيق للجريمة، وتاريخيًا ركز علم الجريمة بشكل شبه حصري على جرائم الشوارع في التطوير النظري والبحث التجريبي، أي أنّ علماء الإجرام قد كرسوا اهتمامًا أكبر بكثير لوصف وشرح الجرائم مثل القتل والسطو والسرقة والسلب وتعاطي المخدرات أكثر من اهتمامهم بجرائم ذوي الياقات البيضاء مثل الاحتيال في الأوراق المالية أو تحديد الأسعار بشكل غير قانوني أو أشكال أخرى من انحراف النخبة، وفي الآونة الأخيرة فقط بدأ عدد كبير من علماء الجريمة في دراسة جرائم النخبة تجريبياً.


شارك المقالة: