صورة الفرزدق في شعر جرير

اقرأ في هذا المقال


لم يرى الأدب بكافة العهود أدباء مثل الفرزدق وجرير، فلقد أثروا بالأدب بقصائد الهجاء وتركوا لنا المقطوعات التي وضحت للناس الدرب الذي ساروا عليه في سخريتهم من بعضهما، كما تعلق الجمهور بمقطوعاتِهم وأصبحوا متلهفين من أجل سماعها ومعرفة رأي كل منهما في الآخر، وهنا سنتناول هيئة الفرزدق عن طريق أبيات جرير والعلاقة التي كانت تربطهما آنذاك.

العلاقة بين الفرزدق وجرير

شغلت الرابطة التي جمعت بينهما مكانةً كبيرةً في الأدب الأموي ولها دور في ازهاره تقدم نحو التجديد، وكان الأديبان من أبرز رواد الكلام المنظوم في زمن بني أمية ودارت بينهما معركة شعرية شديدة نتج عنها ما يعرف بالنقائض وهو شكل من أشكال السخرية والهجاء.

إن المتمعن في هذه النقائض يرى درجة الإبداع الذي نتج عنه معركة هجائية مسلية يراد بها اللهو لا القتال ولقد ساعدهم على إلقاء هذه النقائض وجود المكان المناسب، وكان يتم ذلك الهجاء في سوق مَريد حيث يلتقون فيه يتبارون ويتناظَرون، ويعود سبب نشوب هذا الهجاء الشديد بين الشاعران أنهم نشأوا في البادية وتأثر كل واحد منهم بالحياة القديمة المتحررة من القيود وغلبت عليهم نزعات قبلية كان لها دور في تكون سلوكهم الخاص.

ويجب الإشارة إلى أن القصائد لم تكن منافسة عدائية وأشارت الكثير من النصوص أنهما كانا متعاطفين يحبان بعضهما ويتساعدان، ومثال على ذلك أن جرير هبَّ مرةً لإنقاذ الفرزدق من السجن وكذلك كان الفرزدق معجبًا بمقطوعات جرير ويثني عليها وتحدث عن أدبه حين سُئل ذات مرة: ” وإني وإياه يعني جرير لنغترفُ من بحر واحد.”

ويتضح للمتلقي أن علاقتهما تُعدُّ علاقة أدبية تمنحها ألوانًا من الكلام المنظوم التي أثرت الأدب وفجرت طاقات إبداعية أخرجت الهجاء من منظوره التقليد وتحويله إلى نوع من التسلية واللهو في ذلك الوقت، ومثال عليها أبيات ألقاها جرير واصفًا الفرزدق بأبشع الصفات فكانت بمثابة مسرحية ويقول فيها:

إِنَّ الفَرَزدَقَ قَد تَبَيَّنَ لُؤمُهُ

حَيثُ اِلتَقَت حُشَشاؤُهُ وَالأَخدَعُ

حوقُ الحِمارِ أَبوكَ فَاِعلَم عِلمَهُ

وَنَفاكَ صَعصَعَةُ الدَعِيُّ المُسبَعُ

وَزَعَمتَ أَمَّكُمُ حَصاناً حُرَّةً

كَذِباً قُفَيرَةُ أُمُّكُم وَالقَوبَعُ

وَبَنو قُفَيرَةَ قَد أَجابوا نَهشَلاً

بِاِسمِ العُبودَةِ قَبلَ أَن يَتَصَعصَعوا

مصادر الصور وتأصيل دلالاتها في شعر جرير

كان جرير على اطلاع ودراية بالماضي والمجريات التي مرت على الفرزدق وأهله واستفاد منها في مقطوعاته بشكل جيد، وتمكن من تحريف هذه الأحداث عن دلالاتها الحقيقية ويحولها إلى أفكار أدبية متقنة مستعينًا بخياله التصويري محولاً إياها شعرًا، ومن هذه الأحداث التي ارتكز عليها جرير في سخريته من الفرزدق وأهله:

1- ضياع النسب وإنكاره: كان لهذا الشيء صدى كبير في القصائد حيث كانوا يعتنون بالانتساب إلى الوالدين والفخر بهما، ولقد حاول جرير التشكيك في نسب الفرزدق ويطعن فيه واتهمه بأنه هجين وأنه ابن أمة وجدته سبية فكان ذلك بمثابة سلاح في قبضة جرير يحارب به الفرزدق وقال في ذلك ساخرًا من الفرزدق:

إذا قيل من أم الفرزدق بنت

قفيرة منهُ في القفا واللهازم

قفيرة من قن لسلمى بن جندل 

أبوك ابنها وابن الإماء الخوادم

2- الخيانة وعدم صون الجوار: لقد استغل جرير هذا الشيء الذي يُعد وصمة خزيٍ عند العرب، وقد وجد أن في ماضي قوم الفرزدق ما يدل على هذا عندما قُتل الزبير وهو بجوار قوم الفرزدق ويقول:

ومجاشع قصب هوت أجوافه

غروا الزبير فأي جارٍ ضيعوا

إن الرزية من تضمن قبره

وادي السباع لكل جنب مصرعُ

صورة الفرزدق الأخلاقية في شعر جرير

لقد تعمق جرير في تاريخ وماضي الفرزدق واستغل صفاته التي كان مشهورًا بها، وتحدث عنها من خلال مقطوعاته ومن هذه الصفات السيئة:

1- شربه للخمر: من خلال الهيئة التي رسمها جرير لخصمه فيظهر أن الفرزدق كان يتصف بأخلاق سيئة جعلته دائم السُكر يقضي جُلَّ وقته في الشرب ويقول في ذلك:

أيومًا لما ضور الفرزدق خزيةٌ

ويومًا زواني بابل وخمورها

إذا ما شربت البابلية لم تُبل

حياء ولا يسقى عفيفًا عصيرها

2- وصف الفرزدق بأنه لئيم: عندما تطرق جرير لهذه الصفة إنما صور واقعة حقيقية وتوضح أقوى حالات الإساءة والاستحقار ووصفه بأنه لئيم حقير ولقد أخذ هذه الصفات من والدته فهي أمة لا أصل لها ويقول في ذلك:

قفيرة وهي الأم أم قوم

تُوفي في الفرزدق سبع ام

وأمهم خضاف تداركته

بذحل في القلوب وفي العظام

3- وصف الفرزدق بالفجور: وهذه الصفات السيئة التي يتعفف عنها الشخص صاحب الصفة الكريمة ولا يقترب منها إلا صاحب الأخلاق البذيئة، وبها صور جرير خصمه ويقول:

لَقَد وَلَدَت أُمُّ الفَرَزدَقِ فاجِراً

وَجاءَت بِوَزوازٍ قَصيرِ القَوائِمِ

وَما كانَ جارٌ لِلفَرَزدَقِ مُسلِمٌ

لِيَأمَنَ قِرداً لَيلُهُ غَيرُ نائِمِ

يُوَصِّلُ حَبلَيهِ إِذا جَنَّ لَيلُهُ

لِيَرقى إِلى جاراتِهِ بِالسَلالِم

4- اتهام الفرزدق بالرجس وعدم الطهارة: انتهز جرير فرصة نفي وإبعاد عمر بن عبد العزيز للفرزدق وإخراجه من المدينة وراح يتهمه بأنه رجس غير طاهر وتحدث عنه:

إن الفرزدق حين يدخل مسجدًا

رجس فليس طهور وطهور

إن الفرزدق لا يبالي محرما

ودم الهدي بأذرع ونحور

صورة الفرزدق الشكلية في شعر جرير

1- الصورة الحيوانية: لقد توجه جرير إلى نعت خصمه وتصويره بصور حيوانية كثيرة مُبعدًا إياه عن صور البشر ووضعه في هيئة الحيوانات ومن ذلك وصفه إياه بالقرد قائلاً:

وهل كان الفرزدق غير قرد

أصابته الصواعق فاستدارا

2- صورة الفريسة: أسهب الشاعر من استخدام الصورة الهجائية المستمدة من البيئة مرتكزًا على إبداعه وخياله فيتوجه إلى تصوير ذاته وقدرته من التغلب على الفرزدق والنيل منه حيث شبه نفسه بالصقر الذي يهجم على فريسته ويتمكن منها ويقول:

إني انصببت من السماء عليكم

حتى اختطفتك يا فرزدق من علِ

3- صورة القَين: تمكن جرير من استعمال صورة الجواري ويبدلها لتدل على دلالات مغايرة فنجده يتهكم من خصمه ناعتًا إياه بأقبح الصفات التي تقلل من قيمته وهي صفة القَين التي لا يمارسها إلا العبيد ويقول في ذلك:

فَخَرتُ بِأَيّامِ الفَوارِسِ فَاِفخَروا

بِأَيّامِ قَينَيكُم جُبَيرٍ وَداسِمِ

بِأَيّامِ قَومٍ ما لِقَومِكَ مِثلُها

بِها سَهَّلوا عَنّي خَبارَ الجَراثِمِ

أَقَينَ اِبنَ قَينٍ لا يَسُرُّ نِساءَنا

بِذي نَجَبٍ أَنّا اِدَّعَينا لِدارِمِ

وَفَينا كَما أَدَّت رَبيعَةُ خالِداً

إِلى قَومِهِ حَرباً وَإِن لَم يُسالِمِ

وفي النهاية نستنتج إن قدرة جرير الأدبية قد مكنته من وصف خصمه الفرزدق ورسم له صورة هجائية تثير الضحك والتسلية، وجعلته ينتقي له أنواعًا من الهيئات القبيحة ويخطُّها في لوحةٍ كما يشاء وتطرق إلى السخرية من والديه وقبيلته.


شارك المقالة: