الإعجاز اللغوي والبلاغي :
يعسُرُ أن تُحدَّ وجوه الإعجاز في القرآن العظيم ، فكل شيء منه لا نظير له ، فهو باهر في ألفاظه وأسلوبه، في تأليفه ونظمه، في بيانه وبلاغته، في تشريعه وحكمه التي حيرت الألباب، في أنبائه وأخباره، في تاريخه وحفظه في علومه التي لا تنقطع ولا تقف عند غاية. وقد أجمل وصفَه وأحسَنه من قال :
أَلا إنَّها ستكونُ فتنةٌ، فقلتُ: ما المَخْرَجُ منها يا رسولَ اللهِ؟ قال: كتابُ اللهِ فيه نَبَأُ ما قَبْلَكم، وخَبَرُ ما بعدَكم، وحُكْمُ ما بينكم، وهو الفَصْلُ ليس بالهَزْلِ مَن تركه من جَبّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، ومَن ابْتَغى الهُدى في غيرِه أَضَلَّهُ اللهُ، وهو حَبْلُ اللهِ المَتِينُ، وهو الذِّكْرُ الحكيمُ، وهو الصراطُ المستقيمُ. هو الذي لا تَزِيغُ به الأهواءُ، ولا تَلْتَبِسُ به الْأَلْسِنَةُ، ولا يَشْبَعُ منه العلماءُ، ولا يَخْلَقُ عن كَثْرَةِ الرَّدِّ، ولا تَنْقَضِي عجائبُه. هو الذي لم تَنْتَهِ الجِنُّ إذ سَمِعَتْه حتى قالوا: إِنّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلى الرُّشْدِ فَآمَنّا بِهِ. مَن قال به صدق، ومَن عَمِلَ به أُجِرَ، ومَن حكم به عدل، ومَن دعا إليه هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيمٍ. الترمذي (٢٧٩ هـ)، سنن الترمذي ٢٩٠٦
وهذا النوع أبرز ما تحدَّى به القرآن العرب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو التحدِّي في أبرز خصائصهم، فمع أنَّه بلسانهم، وأتى بما لا يخرج عن وجوه فصاحتهم وأساليب بيانهم، وهم يومئذ في الذروة في ذلك نثراً ونظماً، لكنَّهم عجزوا عن معارضته ولو بسورة من مثله، فصاروا يتخبَّطون، فتارة يقولون : هو شعر، وتارة : أساطير الأولين لا يثبتون على شيء؛ لأنَّهم يعلمون أنَّه ليس كما يقولون .
وما كان ليغفلوا عن صفة الشعر ولا صيغة النثر، وهم أهل ذلك وعباقرته، وإنَّما شأنُهم شأن من قال الله فيهم ﴿فَلَمَّا جَاۤءَتۡهُمۡ ءَایَـٰتُنَا مُبۡصِرَةࣰ قَالُوا۟ هَـٰذَا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ (١٣) وَجَحَدُوا۟ بِهَا وَٱسۡتَیۡقَنَتۡهَاۤ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمࣰا وَعُلُوࣰّاۚ فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِینَ (١٤)﴾ [النمل ١٣-١٤]وهكذا قال أولئك المشركون عن القرآن : ﴿﴿وَلَوۡ نَزَّلۡنَا عَلَیۡكَ كِتَـٰبࣰا فِی قِرۡطَاسࣲ فَلَمَسُوهُ بِأَیۡدِیهِمۡ لَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ﴾ [الأنعام ٧] .
وقالوا : ﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّاۤ إِفۡكٌ ٱفۡتَرَىٰهُ وَأَعَانَهُۥ عَلَیۡهِ قَوۡمٌ ءَاخَرُونَۖ فَقَدۡ جَاۤءُو ظُلۡمࣰا وَزُورࣰا﴾ [الفرقان ٤] وقالوا : ( بَلۡ قَالُوۤا۟ أَضۡغَـٰثُ أَحۡلَـٰمِۭ بَلِ ٱفۡتَرَىٰهُ بَلۡ هُوَ شَاعِرࣱ فَلۡیَأۡتِنَا بِـَٔایَةࣲ كَمَاۤ أُرۡسِلَ ٱلۡأَوَّلُونَ (٥)﴾ [الأنبياء -٥] فهو سبيل من سبق وحجة من لا برهان له .
فهو سبيل من سبق وحجَّة من لا برهان له، ﴿كَذَ ٰلِكَ مَاۤ أَتَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا۟ سَاحِرٌ أَوۡ مَجۡنُونٌ (٥٢) أَتَوَاصَوۡا۟ بِهِۦۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمࣱ طَاغُونَ (٥٣)﴾ [الذاريات ٥٢-٥٣] أعيتهم الحيَل، وضاقت بهم السُّبل، فلجأوا إلى وصف القرآن بما لا يشكون لو أنصَفوا أنَّهم فيه مبطلون، لكن أعمتهم الأهواء فأنَّى يبصرون .
ثمَّ إنَّ هذا القرآن قد اشتمل من القاموس العربي على أحسن الكلمات وأفصحها (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) – الآية 23 من سورة الزُّمر، إمّا في تركيب جُملهِ، وتناسق عباراتهِ، ومقاطع آياتهِ، فهو الفرد الذي لا نظير لهُ .
فكم تُرى يكون في الكلام من المعاني أو البيان أو البديع، فإنَّ القرآن ذروة ذلك، بل عُرف كل ذلك، فما وضُعت علوم البلاغة إلَّا بسببه، طريقاً إلى فهمه، وإبراز لعظيم قدره، وتأصيلاً لُيبنى سائر الكلام على قاعدته ونهجهِ .
وأهل التفسير في القديم والحديث يراعون هذه الخصوصية للقرآن، فلم يتكلَّم أحد في تفسير هذا الكتاب وبيان دلالته ومعانيه.
مظاهر الإعجاز البلاغي :
- الخصائص المتعلِّقة بأسلوب القرآن :
- نظمه البديع : فالقرآن يجري على نسق بديع، خارج عن المعروف والمألوف من نظام كلام العرب، فهو لا تنطبق عليه قوافي الشعر،كما أنَّه ليس على سُنن أسجاع النثر.
- المحافظة على جمال اللفظ والروعة التعبير : إنَّ التعبير القرآني يختار أجمل الألفاظ لأبهى تعبير، ويظل جارياً على مستوى رفيع من هذا الجمال اللفظي .
- صياغة الموافقة لحال المخاطبين : إنَّ ألفاظ القرآن وعباراته مصوغة، بشكلٍ غريبٍ على هيئة عجيبة، بحيث تصلح أن تكون خطاباً لمختلف المستويات .
- التجديد في الأسلوب : وهي تصريف بعض المعاني وتكرارها بقوالب مختلفة من التعبير والأسلوب البياني، بشكل يضفي عليها الجدَّة.