اقرأ في هذا المقال
- تعريف النسخ وشروطه
- ما يُشترط في النسخ
- ما يقع فيه النسخ
- معرفة النسخ وأهميته
- الآراء في النسخ وأدلة ثبوته
- أقسام النسخ
تأتي التشريعات السماوية من عتد الله تعالى على الأنبياء والرسل، من أجل إصلاح الناس في العقيدة والعبادة والمعاملة. وحيث كانت العقيدة واحدة لا يطرأ عليها تغيير لقيامها على توحيد الألوهية والربوبية فقد اتفقت دعوة الرسل جميعًا إليها: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}.
أما العبادات والمعاملات فإنها تتفق في الأسس العامة التي تهدف إلى تهذيب النفس والمحافظة على سلامة المجتمع وربطه برباط التعاون والإخاء، إلا أن مطالب كل أمة قد تختلف عن مطالب أختها، وما يلائم قومًا في عصر قد لا يلائمهم في آخر، ومسلك الدعوة في طور النشأة والتأسيس يختلف عن شرعتها بعد التكوين والبناء، فحكمة التشريع في هذه غيرها في تلك، ولا شك أن المشرِّع سبحانه وتعالى يسع كل شيء رحمة وعلمًا، ولله الأمر والنهي {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} , فلا غرابة في أن يرفع تشريع بآخر مراعاة لمصلحة العباد عن علم سابق بالأول والآخر.
تعريف النسخ وشروطه:
النسخ : يُطلق بمعنى الإزالة، ونسخت الريح – ويطلق كذلك على كلمة النقل وتقول: نسخ الكتاب: أي نقل ما فيه. وفي القرآن:﴿هَـٰذَا كِتَـٰبُنَا یَنطِقُ عَلَیۡكُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّا كُنَّا نَسۡتَنسِخُ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [الجاثية ٢٩] والنسخ اصطلاحاً: رفع الحكم الشرعي بخطاب شرعي – فخرج بالحكم رفع البراءة الأصلية، وخرج بقولنا: “بخطاب شرعي” رفع الحكم بموت أو جنون أو إجماع أو قياس.
والناسخ تطلق على رب العالمين مثل قوله تعالى: ﴿۞ مَا نَنسَخۡ مِنۡ ءَایَةٍ أَوۡ نُنسِهَا نَأۡتِ بِخَیۡرࣲ مِّنۡهَاۤ أَوۡ مِثۡلِهَاۤۗ أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ﴾ [البقرة ١٠٦]، وعلى الآية وما نعرف به النسخ، فيقولون: هذه الآية نسخت آية أخرى، وعلى الحكم لحكم آخر، والمنسوخ هو الحكم المرتفع، فآية المواريث مثلًا أو ما فيها من حكم ناسخ لحكم الوصية للوالدين والأقربين.
ما يُشترط في النسخ:
1- أن يندرج الحكم المنسوخ تحت حكم الشرع.
2- وجود الدليل علىرفع الحكم الخطاب الشرعي المتراخي عن الخطابالذي تم نسخ حكمه.
3- يشترط في الخطاب المرفوع حكمه ألا يكون قُيد بوقت واحد، وإلا فسينتهي بانتهاء وقته ولا يُعَد هذا نسخًا. قال “مكي“.
وقد ذكر جماعة من العلماء أن يكون مشعر بالوقت ، مشعر بأمن الخطاب له غاية مثل قوله تعالى سورة البقرة: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} مُحكم غير منسوخ، لأنه مؤجل بأجل، والمؤجل بأجل لا نسخ فيه، قوله تعالى: ﴿هَـٰذَا كِتَـٰبُنَا یَنطِقُ عَلَیۡكُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّا كُنَّا نَسۡتَنسِخُ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [الجاثية ٢٩] والمراد به نقل الأعمال إلى الصحف.
ما يقع فيه النسخ:
ولا بد من معرفة أن النسخ لا يمكن أن يوجد إلا في الأمر والنهي – سواء صريحة الطلب أو جاءت يصيغة الخبر الذي هو يأتي بمعنى النهي أو الأمر ، على أن يكون ذلك غير متعلق بالاعتقادات التي ترجع إلى ذات الله تعالى وصفاته وكتبه ورسله واليوم الآخر، أو الآداب الخُلُقية، أو أصول العبادات والمعاملات لأن الشرائع كلها لا تخلو عن هذه الأصول. وهي متفقة فيها، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، وقال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} .
وقال تعالى في القِصاص: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، وقال تعالى في الجهاد: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِير} ، وفي الأخلاق: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} وكما لا يدخل النسخ الخبر الواضح المُصرح به الذي ليس بمعنى الطلب كالوعد والوعيد.
معرفة النسخ وأهميته:
وهناك عدة طرق عند الفقهاء والأصوليين والمفسرين في معرفة الناسخ والمنسوخ ولذلك وردت آثار كثيرة في الحث على معرفته، فقد رُوِي أن عليًّا -رضي الله عنه- مرَّ على قاض فقال له: أتعرف، الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، فقال: هلكت وأهلكت. وقال ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} “ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره، وحرامه وحلاله”.
ولمعرفة الناسخ والمنسوخ طرق وهي:
1- النقل الصريح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عن صحابي كحديث: “كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها” “رواه الحاكم”. وقول أنس في قصة أصحاب بئر معونة كما سيأتي: “ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رُفِع”.
2- أن الأمة تجتمع على أن هذا ناسخ وهذا منسوخ.
3- معرفة المتقدم من المتأخر في التاريخ، والنسخ لا يعتمد على الاجتهاد، أو قول المفسرين، ومنها وجود التعارض بين الأدلة في الظاهر، أو تأخر إسلام أحد الراويين.
الآراء في النسخ وأدلة ثبوته:
1- طائفة اليهود: وقد أنكروه، وحجتهم أنه يسلتزم البَدَاء، ويعني الظهور بعد الخفاء، وهم يعنون بذلك: أن النسخ إما أن يكون لغير حكمة، وهذا عبث محال على الله، وإما أن يكون لحكمة ظهرت ولم تكن ظاهرة من قبل، وهذا يستلزم البَدَاء وسبق الجهل، وهو محال على الله تعالى. واستدلالهم هذا فاسد؛ لأن كُلًّا من حكمة الناسخ وحكمة المنسوخ معلوم لله تعالى من قبل، فلم يتجدد علمه بها. وهو سبحانه ينقل العباد من حكم إلى حكم لمصلحة معلومة له من قبل بمقتضى حكمته وتصرفه المطلق في ملكه.
واليهود يقولون بأن الشريعة التي نزل بها النبي موسى عليه السلام نسخت لما قبلها. وجاء في نصوص التوراة النسخ، كتحريم كثير من الحيوان على بني إسرائيل بعد حِلِّه قال تعالى في إخباره عنهم: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} ، وقال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي} … الآية، وثبت في التوراة أن آدم كان يزوج من الأخت. وقد حرم الله ذلك على موسى، وأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا مَن عبد منهم العجل ثم أمرهم برفع السيف عنهم.
2- الروافض: وقد غالوا إثبات النسخ ، وهم مع اليهود طرفي نقيضفهم مع اليهود على طرفي نقيض، واستدلوا على ذلك بأقوال نسبوها إلى علي -رضي الله عنه- زورًا وبهتانًا، وبقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} , على معنى أنه يظهر له المحو والإثبات.
3- جماعة من العلماء منهم الإمام أبو مسلم الأصفهاني : وقد قال بالنسخ من الناحية العقلية، ولكنه قال بالمنع الشرعي، في القرآن خاصة ودليلهبقوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} , على معنى أن أحكامه لا تبطل أبدًا. ويحمل آيات النسخ على التخصيص، ورد عليه بأن معنى الآية أن القرآن لم يتقدمه ما يبطله من الكتب ولا يأتي بعده ما يبطله.
4- وجمهور العلماء: على جواز النسخ عقلًا ووقوعه شرعًا لأدلة:
1- ودليلهم أن أفعاله سبحانه وتعالى، لا تيمكن تُعلليلها بالغرض، فله أن يأمر بالشئ في وقت وينسخه بالنهي عنه في وقت، وهو أعلم بمصالح العباد.
2- ولأن نصوص الكتاب والسٌّنَّة دالة على جواز النسخ ووقوعه:
أ- قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ، وقال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} .
ب- وفي الصحيح عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال عمر, رضي الله عنه: أقرؤنا أُبَيٌّ، وأقضانا، وإنا لندع من قول أُبَيٍّ، وذاك أن أُبَيًّا يقول: لا أدع شيئًا سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد قال الله عز وجل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} .
أقسام النسخ:
والنسخ أربعة أقسام وهي:
القسم الأول هو نسخ الآيات المتواترة، بالآيات المتواترة: وهذا القسم تم الإتفاق على أنه جائز ، ووقوعه من القائلين بالنسخ، فآية الاعتداد بالحول مثلًا نُسِخَت بآية الاعتداد بأربعة أشهر وعشرٍ، كما سيأتي في الأمثلة.
القسم الثاني: نسخ القرآن بالسٌّنَّة: وتحت هذا نوعان وهما:
أ- نسخ القرآن بأحديث الآحاد، ورأي الجمهور على عدم جوازه. فالقرآن من المعروف أنه متواتر يفيد اليقين، وحديث الآحاد يفيد الظن، ولا يصح رفع المعلوم بالمظنون.
ب- وهو ينقسم إلى حالتين : نسخ القرآن بالأحاديث المتواترة: وقال به مالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية، لأن الكل وحي. قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
ودليلهم قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} , والنسخ نوع من البيان – ومنعه الشافعي وأهل الظاهر وأحمد في الرواية الأخرى، لقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} , والسٌّنَّة ليست خيرًا من القرآن ولا مثله.
الحالة الثانية: نسخ السٌّنَّة بالقرآن , وهو رأي الجمهور، مثال أنه كان التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتًا بالسٌّنَّة، وليس في القرآن ما يدل عليه، وقد نُسِخَ بالقرآن في قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} , ووجوب صوم يوم عاشوراء كان ثابتًا بالسٌّنَّة ونُسِخ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ..