تحدي القرآن باقوى أنواع البلاغة
ما الصعب أن تقوم بتحديد وجوه الإعجاز في القرآن العظيم ، فكل شيء منه لا نظير له ولا مثيل ، فقد أبهر في ألفاظه وحتى في أسلوبه، وفي تأليفه ونظمه، وفي تشريعاته وأحكامه التي حيرت العقول والألباب، في أخباره وأنبائه ، في حفظه تاريخه في علومه التي لا تنتهي ولا تنقطع عند حد .
وقد أجمل وأحسن وصفَه الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عندما قال :
“أَلا إنَّها ستكونُ فتنةٌ، فقلتُ: ما المَخْرَجُ منها يا رسولَ اللهِ؟ قال: كتابُ اللهِ فيه نَبَأُ ما قَبْلَكم، وخَبَرُ ما بعدَكم، وحُكْمُ ما بينكم، وهو الفَصْلُ ليس بالهَزْلِ مَن تركه من جَبّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، ومَن ابْتَغى الهُدى في غيرِه أَضَلَّهُ اللهُ، وهو حَبْلُ اللهِ المَتِينُ، وهو الذِّكْرُ الحكيمُ، وهو الصراطُ المستقيمُ. هو الذي لا تَزِيغُ به الأهواءُ، ولا تَلْتَبِسُ به الْأَلْسِنَةُ، ولا يَشْبَعُ منه العلماءُ، ولا يَخْلَقُ عن كَثْرَةِ الرَّدِّ، ولا تَنْقَضِي عجائبُه. هو الذي لم تَنْتَهِ الجِنُّ إذ سَمِعَتْه حتى قالوا: إِنّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلى الرُّشْدِ فَآمَنّا بِهِ. مَن قال به صدق، ومَن عَمِلَ به أُجِرَ، ومَن حكم به عدل، ومَن دعا إليه هُدِيَ إلى صراطٍ مستقيمٍ. خُذْها إليكَ يا أَعْوَرُ. (سنن الترمذي ٢٩٠٦)
وهذا النوع من أبرز ما تحدى به العرب وهم أهل النحو والبيان واللغة العربية ،وهذا التحدي في أبرز خصائصهم، فمع أنه بلسانهم، وأتى بما لا يخرج عن فصاحتهم وأساليبهم البيانية، وهم يومئذ في أعلى ذروتهم شعراً ونظماً، فقد عجزوا عن معارضته ولو بآية من مثله، فتبخطوا، وتلككوا، فمرة يقولون : هو شِعر، ومرَّة يقولون : أساطير أكتتبها فهم لا يثبتون على شيء؛ لأنَّهم يعلمون أنَّه ليس كما يقولون، ولا كما يدعون.
هم كانوا يعرفون الشِِّعر وصيغة النَّثر، عباقرةُ هذا الميدانِ، وإنَّما حالهُم حالُ من قالَ اللهُ فيهم ﴿فَلَمَّا جَاۤءَتۡهُمۡ ءَایَـٰتُنَا مُبۡصِرَةࣰ قَالُوا۟ هَـٰذَا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ (١٣) وَجَحَدُوا۟ بِهَا وَٱسۡتَیۡقَنَتۡهَاۤ أَنفُسُهُمۡ ظُلۡمࣰا وَعُلُوࣰّاۚ فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُفۡسِدِینَ (١٤)﴾ [النمل ١٣-١٤]وهكذا قالوا عن القرآن : ﴿﴿وَلَوۡ نَزَّلۡنَا عَلَیۡكَ كِتَـٰبࣰا فِی قِرۡطَاسࣲ فَلَمَسُوهُ بِأَیۡدِیهِمۡ لَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ﴾ [الأنعام ٧] .
وقالوا كذلك : ﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّاۤ إِفۡكٌ ٱفۡتَرَىٰهُ وَأَعَانَهُۥ عَلَیۡهِ قَوۡمٌ ءَاخَرُونَۖ فَقَدۡ جَاۤءُو ظُلۡمࣰا وَزُورࣰا﴾ [الفرقان ٤] وقالوا : ( بَلۡ قَالُوۤا۟ أَضۡغَـٰثُ أَحۡلَـٰمِۭ بَلِ ٱفۡتَرَىٰهُ بَلۡ هُوَ شَاعِرࣱ فَلۡیَأۡتِنَا بِـَٔایَةࣲ كَمَاۤ أُرۡسِلَ ٱلۡأَوَّلُونَ (٥)﴾ [الأنبياء -٥]
فقد أخبرنا الله بحالهم فقال تعالى ﴿كَذَ ٰلِكَ مَاۤ أَتَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا۟ سَاحِرٌ أَوۡ مَجۡنُونٌ (٥٢) أَتَوَاصَوۡا۟ بِهِۦۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمࣱ طَاغُونَ (٥٣)﴾ [الذاريات ٥٢-٥٣] أعيتهم الحيل والسبل، فلجأوا إلى وصف القرآن بما لا يدركون ، لكن الأهواء أعمتهم فأنَّى يبصرون .
فهذا القرآن الكريم قد اشتمل على القاموس العربي في أحسن الكلمات وأفصحها فقد قال تعالى (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) – الآية 23 من سورة الزمر، سواء في تركيب جُمله، أو تناسق عباراته، وحتى في مقاطع آياته، فهو المعجز الذي لا نظير له .
فكم يا تُرى يكون في الكلام من المعاني أو البديع والبيان ، بل كل أهل التفسير في القديم والحديث يراعون هذه الخصوصية للقرآن، فلم يتكلم أحد في تفسير هذا الكتاب وبيان دلائلة ومعانية .
إنَّ لكتاب الله تعالى فضل كبير على اللغة العربية فهو جوهرها التي تحيا به، إذ لولاه لذابت واضمحلَّت كما اضمحلَّت كثير من اللغات الكثيرة، وتتجلَّى روعة القرآن الكريم في أنَّه وحَّد اللغة وتقاربت اللهجات، فقبل نزول القرآن كانت اللهجات مختلفة متباينة وكل قبيلة لها لهجتها الخاصَّة؛ حتى أنَّ بعض القبائل كانت لا تفهم على بعضها، فلمَّا جاء القرآن الكريم، فتأثر الجميع بأسلوبه حتى صارت لغة القرآن الكريم هي المثل الأعلى، ونموذج يُحتذى، بعد أن كانت كل قبيلة ترى أنَّ لهجتها هي أفضل اللهجات، ولغتها أفضل اللغات، فقد هذَّب القرآن اللغة وجمَّلها، بعد أن كانت اللهجات العربية مليئة بالكلمات الجافية المُنفرة.
فلمّا نزل القرآن الكريم ذابت واضمحلت تلك الكلمات الجافية والنابية ورفضتها الطِّباع السليمة والنفوس المستقيمة.